في وقت مبكر من هذا الشهر، استقالت امرأة بلجيكية مغربية الأصل من عملها بمصنع لمعالجة الأغذية بمدينة "ليدجيم"، جراء تعرضها لسلسلة من التهديدات استمرت لعدة أشهر. وكانت حملة التهديدات تلك، قد بدأت في نوفمبر من العام الماضي، لدى تسلم رئيسها "ريك ريميري" رسالة تهديد من شخص مجهول. محتوى الرسالة هو إنذار بقتله، ما لم يطرد موظفته المغربية الأصل التي وصفتها الرسالة بأنها امرأة أصولية متشددة، أو إرغام الموظفة على التخلي عن الحجاب. ثم تكرر التهديد مرة أخرى، مع إضافة جديدة هي الإعلان عن تخصيص مكافأة مالية بقيمة 326 ألف دولار، لمن يقتل "ريميري". ثم تلتها رسالة ثالثة زودت بطلقة داخلها هذه المرة، مما أثار فزع "ريميري" وزوجته بحق. وعلى الرغم من وقوفهما إلى جانب الموظفة نعيمة أمزيل، إلا أن "ريميري"، قرر أن تتخلى الموظفة عن ارتداء حجابها أثناء ساعات الدوام الرسمي. وبالطبع فقد كان القرار صدمة كبيرة بالنسبة لها، لدرجة أنها شعرت أن جزءا عزيزاً منها قد بتر. ولكن لم ينته الأمر عند ذلك الحد، فقد وصلت رسالة رابعة مزودة بطلقتين هذه المرة، مما أرغم نعيمة على مغادرة وظيفتها التي ظلت عليها لمدة ثماني سنوات، خوفاً من أن تعرض حياتها هي، أو حياة رئيسها ومخدمها للخطر.
وخلال الزيارة التي قمت بها إلى أوروبا مؤخراً لأغراض البحث العلمي، لاحظت كيف تستحوذ قصص مثل هذه، على اهتمام وفكر الجمهور الأوروبي. فهي تمثل واحدة من أبرز أمثلة التطرف الراديكالي الذي وصفته صحيفة "Sueddetsche Zeitung" الألمانية بـ "الهستيريا المعادية للإسلام"، التي تجعل الأوروبيين ينظرون إلى أي حجاب، على أنه رمز سياسي، وإلى كل مسلم على أنه إرهابي، بينما تمثل المساجد في نظرهم، معاقل لتفريخ الكراهية والعداء للغرب. كما تكشف قصة نعيمة عما رأيته بنفسي خلال زيارتي لأوروبا، من عجز واضح من جانبهم عن التمييز بينما يمثل تهديداً لأمنهم وحضارتهم، وبينما يرمز إلى التراث الثقافي العريق للحضارة الإسلامية. وما لم يتمكن الأوروبيون من هذا التمييز، ورسم الحدود السميكة الفاصلة بين ما هو إرهابي وما هو ثقافي، فإنني لأخشى أن تنتهي مجتمعاتهم إلى تمزق مدمر خطير. وقد أشارت دراسة شملت إحدى عشرة دولة أوروبية، نشرها "اتحاد هليسنكي الدولي لحقوق الإنسان" الأسبوع الماضي، إلى هذا المعنى، بتحذيرها من شعور بعض المسلمين بأنه صار ينظر إليهم داخل البلدان الأوروبية الآن، على أنهم "عدو داخلي".
وبالفعل فقد نشأت في أوروبا ظاهرة نفسية جديدة هي "فوبيا الإسلام" أو "رهاب الإسلام". ففي بواكير عقد السبعينيات عندما كنت أعيش في بريطانيا، كانت النساء المسلمات اللائي يعشن في فرنسا، يحدثنني عن إعجاب المواطنين الفرنسيين بحجابهن وأغطية رؤوسهن، التي كان ينظر إليها على أنها "موضة" خاصة، ذات نكهة ثقافية تخص المسلمات. أما النساء التركيات اللائي يعشن في ألمانيا وكبرى مدنها، فكن يلوحن ويتباهين بأغطية رؤوسهن، التي حرمت حكومة بلادهن المتطرفة في علمانيتها، ارتداءها أو الظهور بها في كافة الأماكن العامة. وفي الفترة نفسها، كانت بعض النساء المسلمات القادمات إلى باريس، ينزعن الحجاب وأغطية الرأس التي فرض عليهن ارتداؤها في بلدانهن، منذ لحظة دخولهن مطار "أورلي" الفرنسي. ولكنهن كن يفعلن ذلك بمحض إرادتهن، وليس من قبيل الاستجابة لأي ردة فعل ثقافية فرنسية معادية للحجاب وأغطية الرأس حينها.
وفي الواقع، فقد كان المسلمون قبل ثلاثة عقود خلت، ينظر إليهم في أوروبا بأسرها، على أنهم جالية دينية تحمل تلك الصفة. بل كان يصنف المسلمون تصنيفاً ثقافياً عرقياً في بريطانيا، سواء كانوا باكستانيين أم كشميريين أم بنغالا وهكذا. ولم تتغير نظرة البريطانيين هذه، إلا في بدايات عقد الثمانينيات، حيث زالت الفوارق العرقية والثقافية فيما بين المسلمين في نظر البريطانيين، وصاروا يصفونهم بصفة جمعية واحدة هي "المسلمون". ثم تغيرت هذه النظرة باتجاه أكثر خطورة، خلال السنوات الخمس الأخيرة، حيث أخطأت عيون الأوروبيين النظر، إلى كافة الرموز والشارات الثقافية الدينية الإسلامية، على أنها رموز للتطرف والإرهاب.
وكما نعلم، فقد اتخذ الإسلام موقعه في الخريطة الأوروبية بجملة من الرموز الثقافية الدينية: جزارات "حلال" التي تقدم الذبائح على الطريقة الشرعية الإسلامية، لافتات المحال التجارية المكتوبة باللغتين الأوردو والعربية، النساء المحجبات والعباءات والجلابيب الرجالية، المساجد والمدارس الإسلامية، وغيرها من المظاهر والرموز التي أوصلت المسلمين إلى مراكز السلطة والنفوذ التقليديين في أوروبا. وقد أشارت هذه الرموز جميعها، إلى سرعة النمو السكاني للجالية المسلمة في الدول الأوروبية. ففي خلال عقدين من الزمان، بلغ تعداد المسلمين فيما يزيد على العشر مدن أوروبية، ما بين 30 إلى 40 في المئة، من إجمالي تعداد السكان. وقد أثار هذا النمو السكاني، مخاوف الأوروبيين من أن تكون قارتهم، قطعت شوطاً بعيداً باتجاه التحول إلى "مست