الديمقراطية التي أظهرتْها المظاهرة المليونية التي تزعمها السيد حسن نصر الله يوم الثلاثاء الماضي، ليست الديمقراطية التي يريدها الرئيس بوش ولا شكّ، كما أنّها ليست الديمقراطية التي يأمُلُ فيها ويسعى إليها المتمركزون في ساحة الشهداء. فقد ظلت المعارضة اللبنانية، التي أطلقها ووحّد صفوفَها اغتيال الرئيس الحريري تحتلُّ أكبر ساحات العاصمة اللبنانية؛ طوال شهرٍ تقريباً. وخلال تلك المدة الطويلة نسبياً حدثت أحداثٌ جِسامٌ ليس أهونها شأناً سقوط الحكومة في البرلمان لأول مرةٍ في تاريخ لبنان الحديث – ولأول مرةٍ في تاريخ لبنان الحديث أيضاً أُعيد تكليف رئيس الحكومة المستقيل عمر كرامي بتشكيل حكومةٍ جديدةٍ وبأكثريةٍ نيابيةٍ كبيرة! والأمر الآخر الذي لفت الانتباه كثيراً بدء الجيش السوري بالانسحاب إلى منطقة البقاع بعد خطاب الرئيس الأسد أمام البرلمان السوري. أما الأمر الثالث الداعي للاستغراب فهذا الغرام الذي أحسّه الرئيس جورج بوش بحريتنا، وهذا الاهتمام الشديد بمستقبلنا الديمقراطي. كل يوم يخطب الرجل عن لبنان، وعن نسائم الحرية الجديدة التي بدأْنا نتنسَّمُها بفضل أعماله المجيدة في أفغانستان والعراق، ولا ندري أين بعد! وإذا كانت اهتمامات الرئيس الأميركي المفاجئة قد أقلقتنا وأقلقت الرئيس السوري ولا شكّ؛ فالذي أقلقَنا أكثر اللهجة الجديدة التي واجَهَنا بها السيد حسن نصر الله، وهو الذي ما تعودْنا منه من قبل غير تهديد أميركا وإسرائيل. لقد كنا نعلمُ أنّ الموالاة (لسوريا) تستطيع أن تحشُدَ مليوناً وأكثر. لكننا ما كنا متنبهين إلى أنّ لبنان صار مُحتاجاً لتأسيسٍ جديدٍ وجد السيد حسن نصر الله نفسه مدعواً للقيام به، كما نبهتْنا لذلك صحيفة "السفير" صبيحة الأربعاء الماضي. والأمر الرابعُ أو الخامس الذي انكشف لنا في التظاهُرة وليس قبلها، إخبار السيد نصر الله لنا أنه في الوقت الذي كان فيه ومُشايعوه يقومون بوداع سوريا وشكرها؛ كان يُطْلعِنا على الوظيفة الباقية والدَور الباقي له: الانتصار لإيران في صراعها مع الولايات المتحدة. فالجنوبُ تحرَّر، ومزارع شبعا الباقية تحت الاحتلال قال لنا هو ونائبه الشيخ نعيم قاسم إنه حتى لو انسحبت إسرائيل منها، فلن ينزع حزب الله سلاحَهُ، لأنه سيظلُّ متهيئاً للردّ على هجمات العدوّ في الجو والبحر! وما كانت تلك هي الإشارة الوحيدة، فقد قال إنه ضد القرار 1559، وهذا مفهوم – لكنه أضاف أنه مع الطائف بحذافيره، أي أنه ليس معه؛ لأنّ الطائف ينصُّ على وصول الجيش اللبناني إلى حدود لبنان الدولية، وهي المناطق التي يقيم فيها حزب الله دويلته منذ أكثر من عقدٍ من السنين. ثم اتجه السيّد لتحديد هدفه بشكلٍ مباشر: هدّد فرنسا بالويل والثبور إن لم تكفّ عن عدوانها، وأخبر أميركا أنّ الحرب بينها وبينه مستمرة إلى ما شاء الله.. وهنا تأتي العقدة. فالثالوث السابق: أميركا- سوريا- لبنان، صار: أميركا- إيران- لبنان. فإذا اشتعلت بين أميركا وإيران بعد أشهرٍ قليلة؛ فالويلُ لنا نحن. وإن توافقت إيران مع أميركا كما حدث في أفغانستان والعراق؛ فعندها تتجدد آمالُنا نحن في لبنان أن يسمح الحزبُ بنزع سلاحه أو الانسحاب من الجنوب على الأقلّ!
في حدود العام 1985، وبعد فشل عدة مؤتمراتٍ بجنيف ولوزان من أجل تسويةٍ داخلية؛ جمعت سوريا أطراف الحرب بدمشق، وفَرضت ما سُمي بالاتفاق الثُلاثي بين الميليشيات الشيعية والمسيحية والدرزية. وأفشل الرئيس أمين الجميّل الاتفاق حين أثار جعجع على حبيقه، فَسَقط الطرف المسيحي. وانتهز وقتَها رفيق الحريري (البازغ على الساحة السياسية اللبنانية بعد العام 1982) الفرصة، وأقنع سوريا والعرب بالسعي لتسويةٍ بديلةٍ تطورت إلى صيغة الطائف المعروفة. ورفيق الحريري طرفٌ آتٍ من الخارج (الخارج العربي آنذاك)، وظنته سوريا وحتى بعض الأطراف اللبنانية رجلاً ثرياً محباً للسلطة وحسْب. بيد أنه في منتصف التسعينيات كان قد صار بمشروعه للإعمار والنهوض، وهو وطائفته، طرفاً أساسياً في المُعادلة. وبدأت الحملةُ عليه لصالح إعادة الأمور إلى حدود الاتفاق الثُلاثي، أو البديل الآخر السائد: النظام الأمني الكامل المربوط بسوريا ربطاً محكَماً حتى الآن. كان رِهان الحريري على النهوض الاقتصادي والعمراني، والمجتمع المدني، والانتخابات النيابية والبلدية المنتظمة. ورِهانُ الأمنيين على الأجهزة السرية التي تسيطرُ على كل شيء في الداخل، وتؤمّنُ استمرار الصراع في الداخل باعتباره نضالاً بين نهجين: النهج الوطني والقومي الذي صار الجنرال لحود رمزاً له، والنهج الآخر المستنيم للاستعمار والرجعية والذي رمزُهُ الحريري ورئاسة الحكومة. وما انكشف ذلك كلُّه بسرعةٍ لسببين؛ الأول استمرار الاحتلال الإسرائيلي لأجزاء من جنوب لبنان- والثاني وضع الرئيس الحريري نفسه في مواقع الدفاع؛ ليس لعدم اقتناعه بما يقومُ به؛ بل بسبب ضعف الطبقة السياسية واستتباعها من جانب الأمنيين. وعندما انسحبت إسرائيل من الشريط الحدودي عام 2000 انكشف كل شيء. إذ استمر القت