بعد تدويل الأزمة اللبنانية يتساءل الكثيرون في طول العالم العربي وعرضه عن مستقبل هذا البلد الصغير، الذي ظل قوياً بأبناء شعبه وتعليمهم وآرائهم وإبداعاتهم، وضعيفاً بمؤسساته السياسية والعسكرية، وغير قادر منذ استقلاله على ممارسة سيادته بشكل طبيعي.
كان اللبنانيون لفترة طويلة يتباهون بضعف دولتهم وأنها لا تمثل تهديداً على أحد، وكانوا يتميزون عن معظم الدول المحيطة بهم عربية كانت أم غير عربية، من تركيا وحتى مصر وسوريا وإسرائيل، بأن بلادهم لا تلقي بالاً للشؤون العسكرية، وتكاد ميزانيتها العسكرية لا تتعدى 4%من الدخل القومي. وكان الجيش اللبناني ولا يزال من أضعف الجيوش العربية. ومع ذلك فإن قوة الشعب اللبناني ساهمت في إضعاف مؤسساته السياسية. فهذه المؤسسات كانت ولا تزال مؤسسات طائفية، وانعكس ذلك على تركيبة الجيش الذي لم تكن تركيبته وطنية، بل أصبحت وللأسف ذات طابع طائفي، ووزعت فيها المناصب على أساس المحاصصة، وليس بالضرورة على معايير كبيرة من الكفاءة. تباهى لبنان لفترة طويلة بتحالفاته الخارجية، فالدول الصغيرة في جميع الأزمان، لا تعيش إلا عبر تحالفات خارجية قوية. ولكن إشكالية لبنان هي أن سياسته الخارجية هي انعكاس طبيعي لتركيبته الداخلية. لذا فقد كانت كل فئة في لبنان تنظر إلى حليف خارجي خاص بها، و ربما رأت الدول الأجنبية أن هذا البلد الصغير يمثل منطقة نفوذ تغري الآخرين باللعب في ساحته.
يتمثل هذا كلّه اليوم في الأزمة اللبنانية الحاضرة. فقد نجح الضغط الشعبي والضغط الدولي في إخراج القوات السورية من لبنان. وفي المقابل لن يكون الجيش اللبناني قادراً على ملء الفراغ الحادث، مما قد يستدعي تدخل قوات أجنبية تحت مظلة الأمم المتحدة في لبنان وشؤونه. وبالرغم من أن المرء يرغب في أن يتمتع اللبنانيون باستقلالهم وسيادتهم مثلهم في ذلك مثل أي شعب آخر، إلا أن الانسحاب السوري "المفاجئ" ربما ينتج عنه فراغ أمني لا يستطيع الجيش اللبناني وحده أن يملأه.
وقد تعاظمت الضغوط على الأحزاب السياسية داخل لبنان. فقرار الأمم المتحدة 1559 ينص على تجريد الأحزاب السياسية ومليشياتها من السلاح. وقد سحبت معظم أسلحة المليشيات المختلفة، ما عدا أسلحة المقاومة الوطنية سواءً في حزب الله أو في المقاومة الفلسطينية التي تتخذ من المخيمات الفلسطينية موطناً لها. والحقيقة أن هذا القرار ما هو إلا امتداد لقرار سابق صدر من الكونجرس قبل حوالي سنة كاملة سمي حينئذ بقرار محاسبة سوريا، وقد اعترف وزير الخارجية الإسرائيلي بوقوف دولته خلف هذه الحملة. ولم تكن هذه الضغوط لتؤتي أكلها لولا القرارات التي استفزت بعض الأحزاب اللبنانية بالتمديد لرئيس الجمهورية، وجاء مقتل الحريري ليضع مسمار النعش في أي وجود سوري بلبنان.
اليوم تقف المقاومة والأحزاب اللبنانية مكشوفة الظهر، وبالرغم من كل ما قيل عن إشكالات الوجود السوري الطويل في لبنان، فإن ذلك الوجود حفظ السلم الوطني فترة من الزمن، كما دعم المقاومة الوطنية اللبنانية في وجه الاحتلال الإسرائيلي، حتى نجحت تلك المقاومة في إخراج المحتلين الإسرائيليين من أرضها. وهناك مدرستان إحداهما تقول إن لبنان بحريته الجديدة قد ملّ التدخلات الخارجية، وإن حجم جيشه البالغ تعداده سبعين ألفاً، قادر على حماية التراب اللبناني، متى ما امتنعت الدول الأجنبية عن محاولة التأثير في سياسته الداخلية. أما المدرسة الثانية فترى أن الضغط السياسي على لبنان هو جزء من الضغط الأميركي على سائر الدول العربية، بهدف خلخلة استقرارها الداخلي وإعادة تشكيل النظام السياسي العربي عن طريق إضعاف المركز والدولة القومية، وإحلال دويلات صغيرة طائفية كانت أو إقليمية لتنافس الدولة المركزية على النفوذ، عبر غطاء فيدرالي أو غير ذلك من النماذج السياسية المطروحة. ولما كانت الدول الحالية المستهدفة هي الدول الصغيرة، قبل الدول الكبيرة، فمن الطبيعي وحسب هذا الطرح، أن يكون لبنان على رأس قائمة الدول العربية في هذا الشأن.
وحين تظاهر مليون مواطن لبناني في الثامن من مارس الحالي، فإنهم كانوا يصوتون لصالح حزب الله ولصالح المقاومة الوطنية ضد أي تهميش لهذا الحزب أو لغيره من الأحزاب الوطنية التي حملت البندقية ضد الوجود الإسرائيلي في جنوب لبنان. ولقد كان نداء حسن نصر الله واضحاً، حينما خاطب الإسرائيليين، بأن ما لم تتمكنوا من أن تحصلوا عليه بقوة السلاح، فلن تحصلوا عليه بقوة الضغط السياسي الدولي. وحينما يسير حوالي 35% من أبناء الشعب اللبناني في مظاهرة شعبية تدعم حزب الله والمقاومة اللبنانية، فإن على الآخرين أن يراجعوا حساباتهم. وهذا بالفعل ما يبدو أنه في الأفق. فقرار 1559 القاضي بتجريد المليشيات الحزبية من سلاحها، لن يقابل فقط برفض 25 ألفاً من مقاتلي حزب الله لهذا القرار، بل سيقابل كذلك برفض 40% من أبناء الشعب اللبناني لتطبيقه.
لذلك يبدو أن الولايات المتحدة والدول الكبرى ستغض الطرف عن الشطر الآخر من القرار، وستحتفل بانسحاب القو