في عام 1856 رفع قنصل فرنسا في مدينة طرابلس بشمال لبنان مذكرة إلى وزير خارجية بلاده قال فيها: "يتعلق الشرقي بدينه كما نتعلق نحن بوطننا. والشعب بالنسبة له (للشرقي)، هو عبارة عن مجموعة من الأفراد الذين يعتنقون المذهب الذي يعتنقه هو ويمارسون الشعائر التي يمارسها".
في ضوء هذه الفقرة من تقرير دبلوماسي فرنسي يبلغ عمره 149 عاماً، يمكن تصوّر طبيعة التقارير التي توجهها سفارات الدول الأجنبية إلى حكوماتها - وليس السفارة الفرنسية وحدها - حول الأوضاع الحالية في لبنان.
ففي خضم تداعيات هذه الأوضاع تتوالى البيانات الصادرة عن المراجع الدينية الإسلامية والمسيحية على حد سواء. ومع أن كل بيان يعالج الموضوع ذاته، إلا أن المقاربات متعددة، والتمايزات واضحة. ففي هذا الأسبوع - على سبيل المثال - صدرت أربعة بيانات سياسية - دينية. البيان الأول عن مجلس المطارنة الموارنة الذي يترأسه البطريرك مار نصر الله بطرس صفير، والبيان الثاني عن المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى الذي يترأسه مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ محمد رشيد قباني، والبيان الثالث صدر عن المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الذي يترأسه الشيخ عبد الأمير قبلان، أما البيان الرابع فقد صدر عن مجلس المطارنة الكاثوليك الذي يترأسه البطريرك "غريغوريوس" الثالث لحام.
إن قراءة لما تضمنته هذه البيانات تلقي الضوء على صورة المجتمع اللبناني الذي يتألف كما هو معروف من 18 عائلة روحية إسلامية ومسيحية. كما أنها تلقي ضوءاً آخر على التمايزات في نظرات هذه العائلات إلى الأوضاع التي يمرّ بها لبنان وإلى كيفية التعامل معها.
إن بيان مجلس المطارنة الموارنة يقول مثلاً:"إن التظاهرات السلمية الحضارية المتواصلة ليلاً ونهاراً في ساحة الشهداء والتي أسهمت إسهاماً كبيراً في إسقاط الحكومة، تدلّ على يقظة محمودة لدى اللبنانيين ولا سيما الشباب من بينهم الذين لم يحملوا في هذه التظاهرات غير العلم اللبناني ولم يفكروا غير التفكير الوطني، فانصهروا كل الانصهار في بوتقة الوطن على الرغم من تباين الطوائف واختلاف المذاهب وهذا ما كان مطلوباً".
أما بيان المجلس الإسلامي الشيعي فيقول إنه يستنكر بشدة "المواقف الاستغلالية والانتهازية الساعية إلى زرع بذور الفتنة بين اللبنانيين، وأن وحدة اللبنانيين أقوى من محاولات الاستهداف للنيل من الوطن ومنعته".
لم يشر بيان مجلس المطارنة الموارنة إلى قرار مجلس الأمن الدولي 1559 في بيانه الأخير. إلا أن البطريرك صفير كان قد أعلن أن الذين اتخذوا القرار هم المسؤولون عن تنفيذه.
غير أن المجلس الشيعي أعرب عن رأي في البيان يقول إن القرار 1559 "لا يمكن أن يكون بديلاً عن اتفاق الطائف الذي يجمع كل اللبنانيين، وأن القرار المذكور يفرقهم وهو مشروع فتنة بينهم". واعتبر المجلس "أن ما يجري تداوله من ربط مشاريع التدويل السياسي بخطط أمنية أفصحت عنها وزيرة الخارجية الأميركية، تطرح علامات استفهام خطيرة حول مستقبل الاستقرار في لبنان وإعادته إلى أجواء مشابهة للعام 1982".
ويتجاهل بيان دار الفتوى أي إشارة إلى هذا القرار من قريب أو من بعيد. ويركز على اتفاق الطائف دون سواه مؤكداً على تطبيقه نصاً وروحاً، وعلى اعتباره "الميثاق الوطني الجديد، الذي اجتمعت وانعقدت عليه إرادة اللبنانيين جميعاً، كما حظي بمباركة الدول العربية ودول العالم أجمع، ولا سيما منها الدول الكبرى، ومنظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وبالتالي يجب الاحتكام إليه، واحترام ما تضمنه من أحكام ومبادئ".
أما بيان مجلس المطارنة الكاثوليك، فآثر تجنّب الجدل حول اتفاق الطائف والقرار 1559، وبعد أن دعا إلى "التمسك بوحدة لبنان وسيادته واستقلاله وحريته"، أكد أن استشهاد الرئيس الحريري جاء عامل وحدة وقوة وتضامن بين كل اللبنانيين، وأن هذه الوحدة كفيلة بأن تساعد لبنان على تطبيق وثيقة الوفاق الوطني - الطائف تطبيقاً سليماً كاملاً وشاملاً في شكل يحافظ على العلاقة التاريخية والجغرافية والاقتصادية بين لبنان وسوريا".
إن القاسم المشترك بين البيانات الأربعة هو الإشادة بالرئيس الشهيد رفيق الحريري وبالدور الوطني الذي قام به في حياته، وحتى بعد استشهاده. إذ أصبح موضع استقطاب وطني جامع. ومن ثم التحذير من خطر الفتنة والانقسام والدعوة إلى التمسك بأهداب الوحدة الوطنية والسلم الأهلي لتجنب الوقوع في الفخ الذي يستدرج إليه لبنان مرة جديدة.
غير أن التباينات تعود إلى الظهور من خلال قضية التحقيق في الجريمة التي أدت إلى اغتياله، ومن خلال الموقف من رؤساء الأجهزة الأمنية في لبنان.
هناك إجماع على إدانة الجريمة. وهناك إجماع على وجوب التحقيق لكشف المجرمين ومحاسبتهم. ولكن البيانات لا تعكس إجماعا حول الأمور التالية:
- الطعن بصدقية التحقيق المحلي.
- المطالبة باستقالة أو بإقالة رؤساء الأجهزة الأمنية.
- المطالبة بتحويل لجنة تقصي الحقائق الدولية إلى لجنة تحقيق دولية.
- تشكيل حكومة جديدة.
- كيفية التع