كثرت مفاجآت العالم العربي في السياسة التي تدار بها الأمور، ففي كثير من الأحيان تأتي الأحداث عكس توقعات الكثير من المحللين الذين يتصفون بالعجلة في القول أو الحكم على القرارات المفاجئة.
فمقتل الحريري "رحمه الله" مفاجأة ولا يوجد أي مبرر للتخلص منه بهذه الصورة المنكرة إلا ما يدور في عقول المدبرين الذين نخشى أن تلفهم ذيول النسيان كغيرها من القضايا التي حفظت "ضد المجهول" وإن كان هذا المجهول واضحا لدى البعض.
فحادثة القتل بدأت حوباتها تظهر على الفور على غرار سلسلة من المطالبات المفاجئة والملحة على خروج سوريا بقضها وقضيضها من العمق اللبناني السياسي والعسكري في آن واحد، بعد ثلاثة عقود من التواجد المستمر هناك. تسارعت بعد ذلك موجات من الضغوط الداخلية على هيئة مسيرات ومظاهرات سلمية وخطب للمعارضة في لبنان أدت إلى إسقاط الحكومة اللبنانية المفاجئ، وسمي ذلك في وقته بتحقيق الهدف الأول، وبمتابعة تحقيق الأهداف الأخرى. إلى أن جاء خطاب الرئيس السوري بشار الأسد أمام مجلس الشعب الذي كان العالم بانتظاره على أساس أنه الحدث الأول، وقد تقدم فعلا كل الأخبار على مستوى العالم حال الإعلان المدوي عن خروج القوات السورية إلى سهل البقاع ومن ثم المرابطة على مشارف الحدود السورية واللبنانية، وفق برنامج زمني بالاتفاق مع طرفي المصلحة في التعامل مع الأحداث المتسارعة بصورة أقرب للدراما الوثائقية المصورة بإيجاز وبلحظات يصعب على الكاميرا الرقمية تصوير فصولها، فلا زالت التداعيات متوالية عبر ثواني الزمن ولا نقول الساعات الثقال.
السوريون اعتبروا قرار الانسحاب والخطاب السياسي قمة العقلانية، وجاء بالدرجة الأولى لمصلحة الشعب السوري قبل الشعب اللبناني حتى لا تقع السياسة الخارجية تحت ظل الأخطاء التي ارتكبها صدام حسين في الحرب التي جرت المنطقة إلى ويلات مرات ومرات. لا أحد منا يريد أن يرى سوريا المغروس حبها في قلوبنا والصامدة أمام إسرائيل المحتلة للجولان في فوهة المدافع وصرير الرياح العاتية. فسوريا بذلك أبعدت مبررات استعجال استهدافها من أميركا أولاً، وفرنسا ثانياً، مع التأكيد على أن المبررات الجديدة يمكن خلقها بسهولة كما هو في شأن أسلحة الدمار الشامل في العراق والتي اعترف كولن باول وزير خارجية أميركا السابق عن ذوبانها في أخطاء "سي أي أيه" ولم يرَ لها أثرا بعد عين... وبالتالي اعتذر عن كذبه.
الأهم من ذلك كله هو وصول الأطراف اللبنانية والهائجة منها إلى صيغة جديدة من الوفاق والتعاون والتفاهم للتعايش بعد الانسحاب. إن هذا الفراغ المفاجئ للتواجد السوري يجب أن يملأ بمزيد من التنسيق في السياسات التي تحكم البلدين الشقيقين والجارين اللصيقين، دون أن يؤدي ذلك إلى إعادة الحديث عن فتنة طائفية مخبأة تحت الرماد. فهذا الهاجس يجب أن يقلق الحكماء والعقلاء في لبنان وهم يفكرون في المستقبل، وفي مداواة جروح الانسحاب لدى البعض الذي يرى في بقاء سوريا دعما للحمة الوحدة الوطنية في لبنان.
نعود إلى لبنان الذي استشهد لأجله الحريري ورفاقه، بلد السلام والوئام مع وجود بيئة قابلة للاشتعال. فاستكمال مشوار عمران الإنسان اللبناني من أجل عمران البنيان الذي يضم الجميع تحت سقف واحد هو السبيل الوحيد للخروج من المأزق الذي ينتظر البعض وقوعه بعد الانسحاب السوري.
فتعرض سوريا لضربات استباقية ومبررات واهية كان هو السيناريو الأقرب إلى التحقيق لولا مفاجآت الأحداث التي غيرت المعادلة التي تم ترتيبها سلفاً، رغم أن الإفصاح عنها كان علناً من اللاعبين في الماء العفن بين سوريا ولبنان الحر الذي سيلعب الدور المطلوب في المرحلة المقبلة من عمره السياسي.