كم حاولت - بوصفي قريباً من الحالة "الوظيفية" - أن أصل إلى تفسير دقيق يحدد لي بصورة واضحة السبب في أن تكون بيئة العمل في بعض المؤسسات بيئة طاردة للكفاءات والخبرات والمواهب، ويشعر فيها الفرد بعدم الأمان وعدم القدرة على الإنتاج والتطوير والإبداع. بيئة يتغلغل في داخلها نوع من الفساد ويسرق فيها صغار النفوس إبداعات الكبار، ويتحول فيها الأقزام إلى عمالقة والعمالقة إلى أقزام، والمبدعون إلى جهلة والجهلة إلى مبدعين. بيئة يغيب عنها التوازن النفسي السليم والفكر المستنير والحوار الجاد واحترام الحقوق. ولم أجد تفسيراً لذلك إلا في "فساد الضمير"، وأقصد بذلك أن ما يصيب الضمير من ثقوب ضيقة أو واسعة يؤثر بشكل كبير ليس فقط على العمل أو إنتاجية الفرد أو المؤسسة أو المشاريع والخطط والبرامج والاستراتيجيات، بل على حركة التنمية والمجتمع بأكمله. فالضمير هو الصوت الداخلي الذي يوجه الإنسان، وهو في القرآن الكريم "النفس اللوامة" والرقيب الخاص داخل كل إنسان، وهو كما يعرفه أهل الاختصاص جهاز "نفسي تقييمي- تقويمي" ينبه الإنسان إلى ما يصيب سلوكه من شر وخير، لذلك فإن الدعوة إلى العمل على تنقية الضمير الاجتماعي الخاص والعام أصبحت اليوم دعوة مهمة خاصة، بعد أن زادت هموم ومشكلات العمل وفاعلية تأثيرها، وزاد التلوث الفوضوي في بيئة العمل وزادت الضغوط الناتجة عن حالة الاهتزاز والعطب والثقوب التي أصابت جدار الضمير الإداري والقيادي في بعض المؤسسات والذي هو جزء من الضمير الاجتماعي العام ومزقت نسيجه المتماسك.
نحن إذاً في حاجة ماسة إلى "إيقاظ الضمير" لأننا في حقيقة الأمر نعيش اليوم الكثير من الهموم. كلنا يشكو إلى ما وصلت إليه أوضاعنا الاجتماعية والثقافية والسياسية. كلنا يشكو اختلال النظام الأخلاقي في المجتمع. كلنا يشكو من همّ العمل والوظيفة وظلم المؤسسة وظلم الرؤساء في العمل. كلنا يحمل في داخله جزءاً من هذه الهموم. بعضنا يتحدث عنها بصوت عالٍ وبعضنا يتحدث عنها خلف جدران مغلقة، وهناك من تظل في صدره مكتومة وقابلة للانفجار في أية لحظة.
والسؤال المهم هنا: كيف يمكن أن نعمل على إزالة مثل هذه الإشكاليات من بيئة العمل؟. كيف يمكن أن نزيل مثل هذه الأمراض من حياتنا الاجتماعية؟.
في تصوري أننا يجب أولاً أن نعترف بوجود المشكلة ونحدد جوانبها المختلفة، ثم نبدأ في قراءة ضمائرنا قراءة تشخيصية دقيقة نبحث في داخلها عن جوانب القوة والضعف، الخطأ والصواب، السلب والإيجاب، حتى نصل إلى صورة تشخيصية دقيقة نكشف من خلالها الحالة بصورة واضحة. وأهمية هذا التشخيص أنه سيلعب دوراً مؤثراً في تصحيح الكثير من أمراضنا الاجتماعية وتعديل مسار هرم النظام الأخلاقي المقلوب داخل بيئة العمل، وذلك بتعديله وتوجيه حركة الضمير إلى مسارات هادفة تخدم العمل والوظيفة والفرد والنظام الأخلاقي داخل المؤسسة. كذلك تخدم هذه المسارات أهداف المجتمع واستراتيجية المؤسسة وبيئة العمل بصورة سليمة، وجودة عالية مما يجعل المجتمع قادراً على الإنتاج والمنافسة وتجويد العمل والاحتفاظ بالكفاءات والخبرات والمواهب العاملة فيه. كذلك تعيد هذه المسارات للنظام الأخلاقي داخل المؤسسة وظيفته الصحيحة بحيث تترسخ من خلاله مفاهيم كثيرة أهمها حب العمل وإتقانه والإخلاص له والانتماء إليه والحفاظ على أمانة الوظيفة وأمانة المال العام، وحقوق الغير والتركيز على "نشر ثقافة أخلاقيات المهنة" بحيث تختفي من قاموسنا أمراض اجتماعية كثيرة. عند حصول ذلك ستكون مؤسساتنا قادرة على أن تنافس إنتاجياً وفكرياً وإدارياً واستراتيجياً أكبر المؤسسات العالمية.