حين تحدثت ثلاث نساء فرنسيات من أصول شمال إفريقية، عن ديانتهن الإسلامية، هنا ذات مساء في أحد مقاهي باريس، تعلقت عيونهن بردود الفعل التي كن يقرأنها على وجوه وملامح الآخرين الذين كانوا يجلسون إلى جوارهن. بل كان بين الحضور في تلك اللحظة، رجل فرنسي، وقد شده الحوار إلى درجة جعلت منه أقرب إلى المشاركة الفعلية فيما يجري. وبالطبع كانت نظراته كلها تنم عن شكوك ومخاوف عميقة من كل ما قيل. إحدى هؤلاء النسوة نادية، طالبة جامعية، تعمل في إحدى رياض الأطفال، ومن مواليد فرنسا وحاملة لجنسيتها. قالت لصديقتيها، إن مديرتها انفجرت فيها لدى مطالبتها بعطلة يوم واحد للاحتفال بعيد الفطر. ونعتتها المديرة باللامهنية وعدم الاحتراف في أداء عملها كموظفة. وأضافت نادية قائلة، إن الغرب كله يقف على قدم واحدة، عندما يطالب مسلم أو مسلمة بإجازة يوم واحد، للاحتفال بأحد الطقوس أو الشعائر الدينية! وتلا ذلك الانطباع مباشرة، تعبير نادية عن شعورها بأنها فرنسية وليست فرنسية في آن واحد، وبأنها لا تشعر بالانتماء الكامل للبلد الذي ولدت وتربت فيه. إلى ذلك أومأت صديقتاها الجالستان معها برأسيهن، دليل الموافقة والتأكيد على ما قيل. بل أضافت صديقتها بثينة قرقوري، قائلة "نحن نشعر بأننا فرنسيات، بقدر ما تتيح لنا فرنسا هذا الشعور، لأنه يصعب علينا جداً أن نمارس شعائرنا الدينية كما نريد". إلى ذلك قالت المتحدثة الثالثة، ليلى بوسطيلة: لا يمكنني احتمال القيود والعوائق الموضوعة أمام ما أود أن أكونه في حياتي. يلاحظ على الفتيات الفرنسيات المسلمات الثلاث، أنه ما من واحدة منهن ترتدي حجاباً أو تضع غطاءً على رأسها، وأنهن متحررات في ملابسهن.
والشاهد أن هذا الحوار الذي دار بين الفتيات الثلاث، ليس معزولاً عما يسود الشارع العام الفرنسي، حيث أصبحت مكانة الدين في الحياة العامة، من أكثر المواضيع سخونة، التي يطرحها الحوار العام الفرنسي والأوروبي بوجه عام. والعامل الرئيسي وراء ذلك هو الإسلام، وتنامي أعداد السكان المسلمين الذين يعيشون اليوم في المجتمعات الأوروبية، لا سيما بعد أن بلغ تعدادهم الملايين في كل بلد أوروبي. وما أن تفتحت عيون المجتمعات الأوروبية على صدمة الإرهاب الأصولي الإسلامي، حتى انتبهت إلى واقع الأقليات المسلمة، التي تبين لها، أنها تأخذ عقيدتها بجدية أكبر مما يفعل الأوروبيون مع دينهم المسيحي. واليوم فإن العلاقة بين الأوروبيين الأصليين، وجيرانهم الوافدين المسلمين، يشوبها الكثير من القلق والتوتر. بل إن فجوة الثقة المتبادلة بين الطرفين، تهدد باندلاع جرائم وأعمال الكراهية والعنف بينهما. وكما نذكر، فقد أحرقت جماعة من الغاضبين والمحتجين، مسجدين ومدرسة إسلامية في هولندا، إثر اعتقال متشدد إسلامي، واتهامه باغتيال المخرج السينمائي "تيو فان جوخ"، الذي انتقد في فيلمه معاملة المسلمين للمرأة في مجتمعاتهم العام الماضي. وأكثر ما يثير قلق الأوروبيين الآن، الرسائل الإلكترونية، التي يطلقها عدد من الدعاة والمتشددين الإسلاميين، تحريضاً وحضاً للأقليات المسلمة في أوروبا على الجهاد. من ذلك مثلاً الرسالة التي أطلقها الداعية السوري الأصل، عمر بكري محمد، الشهر الماضي يقول فيها: من رأيي أن بريطانيا كلها، قد أصبحت "داراً للحرب"، وإن الجهاد جائز للمسلمين، أينما كانوا. وتعليقاً على مثل هذه التصريحات وأمثالها من أقوال وأفعال، قال "جورجين نيلسن"، أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة "بيرمنجهام" ببريطانيا، إن التيارات الكنسية الرئيسية، على امتداد القارة الأوروبية كلها، تبدي قلقاً عظيماً من تصاعد التيار القومي الأصولي في القارة مؤخراً. وأضاف البروفيسور قائلاً: إن أكثر ما يؤرق العلمانيين بصفة خاصة، ليس تصاعد المد الإسلامي الأصولي وحده، وإنما أيضاً عودة الدين عموماً إلى الهيمنة على الحياة العامة في أوروبا.
يلاحظ أن عدد المسلمين الأوروبيين قد تضاعف ثلاث مرات خلال الثلاثين عاماً الماضية، نتيجة لزيادة أعداد المهاجرين من دول شمال إفريقيا وتركيا وباكستان وبنجلاديش. ومن رأي "باتريك ويل"، عالم الاجتماع الفرنسي، أن هذا النمو السريع المطرد للأقليات المسلمة في أوروبا، سيجعل من الصعب على القارة، دمج هذه الأقليات في المجتمعات والثقافات الأوروبية بالسرعة المطلوبة. واستطرد "باتريك ويل" قائلاً: إن هذه هي المرة الأولى خلال فترة طويلة جداً من الزمن، التي تجد فيها أوروبا نفسها مضطرة لإظهار قدرتها واستعدادها على قبول التعدد الديني والتكيف معه. ولا شك أن في هذا تحدياً كبيراً، لكافة الأوروبيين. في الوقت ذاته، يعترف طارق رمضان، وهو من أبرز المفكرين الإسلاميين في أوروبا، بأن على المجتمعات الإسلامية أن تعيد النظر في الكثير من عاداتها، التي تنفر الأوروبيين منها. على سبيل المثال، عادات وطريقة معاملة المرأة في هذه المجتمعات. بل مضى طارق إلى القول: إنه حان الوقت للمجتمعات الإسلامية التي تعيش في أوروبا، أن تنتقل من مجتمعات عربية أو إفريقية أو آسيوية