كان لـ "منتدى الفكر العربي" في عمّان فضل في إطلاق الدعوة لندوة فكرية حول محور قد يكون واحدا من أهم المحاور في الفكر العربي النظري والسياسي المعاصر، وهو بعنوان "الوسطية بين التنظير والتطبيق"، وقد انعقدت هذه الندوة في مملكة البحرين في 27 و28 فبراير الماضي. وقدمت "ورقة عمل" بعنوان: الوسطية - المفاهيم والأفكار. ويتضح من هذا العنوان أن المطلوب يتحدد بضبط المفاهيم الكبرى المؤسسة لـ"الوسطية" وبوضع اليد على الحيثيات الفكرية النظرية، التي تنسج البناء الخاص بهذه الظاهرة وتجعل منه ما هو عليه.
والحق، أن الخوض في ذلك اتضح أنه أكثر من معقد لسببين اثنين، على الأقل، السبب الأول منهما يقوم على غياب شبه كلي لما يعتبر مرجعا أو مصدرا لهذه المسألة، فبغض النظر عن بعض الأفكار المنتشرة هنا وهناك، يلاحظ افتقار لبحث أو آخر يأخذ على عاتقه تفكيك المفهوم المذكور وإعادة بنائه ضمن الوضعية الفكرية العربية، وعلى أساس الاستحقاقات النظرية والمنهجية والسياسية والقيمية. أما السبب الثاني فيفصح عن نفسه من خلال الصراعات الملتهبة في الحقول العربية والإسلامية والدولية، بحيث يتحول البحث في "الوسطية" إلى وهم لا أساس واقعياً له، أي أن هيمنة تلك الصراعات بين الإسلاميين والإسلاميين، وبين الإسلاميين والعلمانيين، وبين العرب والمسلمين من طرف، والغرب في مرجعيات كثيرة له من طرف آخر، أن ذلك كله يكاد يغيب القول باحتمال الوصول إلى حلول لذلك كله يمكن أن تكون الوسطية أحدها.
من هنا، كان الشغل على الوسطية معقدا، بقدر ما هو مهم وحاكم، بقدر ما، بالنسبة إلى الإشكالية الثقافية والفكرية والسياسية والقيمية المهيمنة بفعل الصراعات المذكورة. ويمكن القول بادئ ذي بدء بأن الوسطية مصطلح تخوميّ ومركب، نظرا إلى أنها تمثل حقلا ينسحب على العديد من الأنساق الفكرية، التي تبحث فيها، مثل المنطقية والفلسفية والاجتماعية والقيمية والدينية والسياسية وغيرها. أما العملية التي تتأسس عليها هذه الظاهرة فتتحدد في اكتشاف ما يوحّد بين الناس أولا، وما لا يوحد بينهم ثانيا، فتحفز على انتشار الحقل الأول، ولكن دون الإطاحة بما لا يوحّد بين الناس، بل إن الوسطية تجر نفسها مدعوة إلى اكتشاف عناصر الخلاف والاختلاف بين الناس، دون تزوير أو مراوغة من طرف، وإلى البحث فيها بحثا عقلانيا مفتوحا على أساس التقليل من خطورتها، التي قد تتحول إلى عنصر يهدد الناس جميعا، من طرف آخر، وإلى القيام بذلك كله بطريق سلمي يرفض الاحتكام إلى السلاح من طرف ثالث. ومن شأن هذا أن يعني أن الوسطية لا تخفي عناصر الخلاف والاختلاف وأنها - وهذا مهم - لا تنكر القول بوجود صراعات بين من يقف وراء تلك العناصر، بل العكس من ذلك، هي تبذل جهدا كبيرا للكشف عن العناصر المذكورة، ولكن دون السماح لها أن تتحول إلى مسار صراع مسلح مجنون يدمّر الجميع، مما يشير إلى أن الوسطية لا تنتشي باكتشاف عناصر الاتفاق والتوافق أو التوحد بين الناس بل تسعى إلى ما هو أكثر من ذلك: الكشف عن عناصر الخلاف والاختلاف على نحو يمكن أن يجعل منها عناصر اتفاق وتوافق أو توحد يفقدها وظيفة الاحتراب بالسلاح ويؤسس لوظيفة الاحتكام السلمي للعقلانية والديمقراطية والحوار المفتوح باطراد.
وعلى هذا نلاحظ أن التوسطية إن هي إلا رؤية منهجية تقوم على اكتشاف المفاصل التي تربط الناس ببعضهم بعضاً وعلى اكتشاف المفاصل التي لا تربطهم ببعضهم أو التي يمكن أن تكون قنابل موقوتة للاحتراب فيما بينهم وهي - بهذا - رؤية قد تكون ذات أهمية بالغة الخصوصية في المجتمعات العربية والإسلامية، التي تتشابك فيها الاختلافات والخلافات والصراعات الفئوية والطائفية والمذهبية والاثنية. وثمة في الأخير أمر يتحدد في أن الوسطية حين تعجز عن حل المشكلات المذكورة "في المجتمع العربي والإسلامي خصوصا" فإن الواجب أن نبحث فيما يحول دون ذلك مبدئياً، مثل الغبن الفاحش في توزيع الثروة، والاستئثار بالسلطة والحقيقة والرأي العام.