سياسة الارتشاء المتبادل، ومقايضة السكوت الغربي إزاء ديكتاتوريات الشرق الأوسط مقابل تمرير مصالح غربية معروفة هي سياسة معروفة ومقرفة ودفعت شعوب المنطقة ثمنها غالياً على مدار العقود الستة الماضية. الجديد هو أن يُعاد بعث تلك السياسة يداً بيد مع تعالي الإعلان عن سياسة أميركية تستهدف دمقرطة الشرق الأوسط. السياسة الأولى، الارتشاء، تبطل الثانية، الدعوة إلى الديمقراطية، وتجعل الدعوة إلى الدمقرطة سخيفة ومزحة سوداء لا فائدة منها سوى تعميق الإحباط الشعبي من فكرة الديمقراطية واستدامة ربطها بالقوى الأجنبية.
الوصفة القديمة/ الجديدة تقول إذا أردت أن تتغاضى الولايات المتحدة عن قمعك لشعبك وتتسامح مع نظام حكمك الديكتاتوري امنح أميركا ما تريد، وقدم لها رشوة من العيار الثقيل. وهناك أنواع مختلفة من الرشى تمتاز بفاعلية كبرى وما عليك سوى اختيار المناسب منها بحسب الظرف و"الإمكانات"! مثلاً هناك رشوة "التوقف" عن برامج تطوير أسلحة دمار شامل. وهنا إذا أردت أن تتحول من زعيم يهدد أمن العالم والأمن القومي للقوى الكبرى إلى قائد حكيم ويحظى بالود الغربي الفجائي اعترف بأنك كنت منهمكاً في مشروع سري لبناء سلاح من أسلحة الدمار الشامل. ثم أعلن أنك ندمت على فعلتك تلك وأقلعت عن الذنب، ثم افتح أبواب بلدك للتفتيش الدولي (الأميركي). بعدها تحصل على صك البراءة، وتواصل استمتاعك بقمع شعبك ولن يزعجك جورج بوش بعدها بقصة الديمقراطية وحقوق الإنسان. وهناك رشوة مشهورة في السنوات القليلة الماضية لها سحر خاص وهي "التعاون مع الولايات المتحدة في حربها ضد الإرهاب"، وهي رشوة بالغة الفعالية في أوساط الدوائر الضيقة المحيطة بجورج بوش. وبها تستطيع أن تلعثم الرئيس الأميركي عند الحديث حول أوضاع حقوق الإنسان في بلدك، فيتحول بلدك بقدرة قادر إلى واحة ديمقراطية بضربة تصريح واحد من قبل الزعيم الحر الأقوى في العالم.
لكن تبقى الرشوة الذهبية الكبرى وذات الفعالية العابرة للظروف الزمانية والمكانية والمتغيرات المتعددة والسنوات والأحداث هي فتح العلاقة مع إسرائيل، فهنا "ضربة المعلم". فإن أردت أن تسكت أية أصوات ناقدة في الكونغرس الأميركي لا تني تفتح الملفات الوسخة من انتهاكات حقوق الإنسان، إلى توالي انتخابات رئاسية هزلية مزيفة ومزورة، وإذا أردت أن يختفي النقد الذي يستحقه نظامك بجدارة من على ألسنة المسؤولين الأميركيين ومن ورائهم الغربيين عموماً، فما عليك إلا أن تولي وجهك شطر تل أبيب! عندها تحل كل المعضلات. وعندها سيكون الرئيس ووزيرة خارجيته ووزير دفاعه وكل أركان حكمه إلى جانبك، يشيدون بحكمتك وبعد نظرك وحسك الإنساني المرهف (الذي يغيب تماماً عند تعاملك الوحشي مع شعبك طبعاً).
لكن كيف تشتغل هذه الرشوة مع الدعاوى الأميركية للدمقرطة والانفتاح السياسي وسيادة حكم القانون والخضوع للإرادة الشعبية في الخيارات السياسية؟ هذا السؤال غير موجه لك، فما عليك أنت إلا أن تستمتع بعوائد الرشوة التي قمت بها سواء بدعوة إسرائيليين إلى بلدك، أو باحتضان مؤتمر يحضره شارون، أو بإرسال "حجاج" إلى القدس، أو بدعوة وزير إسرائيلي كي يشارك في "حوار" ما سواء تلفزيوني أو غيره في عاصمة بلدك، أو بأية وسيلة أخرى لن تعدم اجتراحها. لكن السؤال موجه إلى "آينشتاين الأميركي" الذي نطلب منه حل هذه المعادلة المستعصية علينا والمتعلقة بإحلال الديمقراطية في العالم العربي. المعادلة تقول ما يلي: الغالبية الكاسحة للأنظمة العربية مستبدة وغير ديمقراطية وشعوبها تكرهها، إسرائيل دولة مغتصبة ومحتلة وعنصرية وشعوب المنطقة تكرهها كما تكره أنظمتها وأكثر. أميركا أيدت وتؤيد الأنظمة المكروهة وإسرائيل المكروهة، لهذا فهي تظفر أيضاً بكراهية شعبية مزدوجة. أميركا من جهتها، ومن جهلها، غاضبة على الأنظمة لأنها لم تعرف كيف تدير مسألة "الكراهية المزدوجة للأنظمة وإسرائيل" التي ولدت العنف والتطرف في المنطقة. أميركا تقول إنها تريد دمقرطة هذه الأنظمة، وتنفيس الاحتقان على صعيد الكراهية الشعبية الأولى الموجهة للأنظمة والمولدة للتطرف بأمل أن يؤدي ذلك إلى فسح المجال أمام الغضب الشعبي كي يجد لنفسه تعبيرات سلمية عوض أن ينجرف إلى التطرف. هذا جميل، لكن ماذا على صعيد سبب الكراهية الثانية، كراهية إسرائيل؟ هنا "العبقرية السياسية الأميركية" حيث تقوم أميركا نفسها بدفع نفس تلك الأنظمة المكروهة إلى فتح أبوابها للإسرائيليين من دون تحقيق سلام عادل وشامل، ولشارون المتهم بجرائم حرب ضد الإنسانية والمكروه بشكل لا مثيل له في العالم العربي، وهكذا فهي تعزز الكراهيتين معاً. أي أن أميركا تفاقم من الاحتقان في الكراهية الثانية، ضد إسرائيل، وتعزز الكراهية الأولى ضد الأنظمة التي تخضع للطلب الأميركي على الضد من الرغبة الشعبية. الانفتاح على إٍسرائيل بطريقة الوله والشبق السياسي المتسرع ليس قراراً ديمقراطياً ولا يتماشى مع الإرادة الشعبية، بل هو ضدها، ويؤدي إلى عكس ما يُراد منه. هو قرار ديكتاتوري بامتياز، يكرس