أكبر خطأ كان يمكن أن ترتكبه كوكبة من الإعلاميين و"المحللين" ومدبجي المقالات والشعارات وممن يطلقون على أنفسهم "مثقفين"، بحق سوريا هو دفعها نحو التصادم مع الشرعية الدولية تحت ذرائع "القومية" و"النضال" والتصدي والصمود وما إلى ذلك من شعارات أكلها الدرب وشرب ولم يبق منها سوى الأطلال.
خطاب الرئيس السوري بشار الأسد وضع الكثير من النقاط على الحروف، وامتص الاحتقان الشديد الذي كان مسيطرا على الساحتين السورية واللبنانية بشكل خاص والساحة العربية بصورة عامة، وأظهر للعالم أن العقلاء من العرب بدؤوا يعون ويستوعبون تجارب التاريخ وتجارب الآخرين وبدؤوا يفهمون الدروس جيدا.. وأن الوطن لم يعد للمتزمتين ولا لديناصورات "القومية" والنضال ضد الإمبريالية!
فمخطئ كل من دعا القيادة السورية، من أولئك "المحللين" ومن مرددي أدبيات "ميشيل عفلق" و"شبلي العيسمي"، إلى تجاهل التهديدات الأميركية والفرنسية، وإلى تجاهل القرار رقم 1559 الصادر عن مجلس الأمن الدولي. ومخطئ من كان يظن للحظة بأن تلك التهديدات ما هي إلا تهويش أو تخريف يراد به كسب الوقت أو اتباع سياسة "حرق الأعصاب" أو أنها "جعجعة بدون طحن". بل هي تهديدات قد تسبق طحنا للعظام وكسرا للرؤوس التي لا تعرف سوى العناد.
ويبدو أن القيادة السورية قد أدركت هذا الأمر جيدا، وأدركت أن زمن العناد ورفع الشعارات الخاوية والصراخ عبر الميكرفونات و"النفخة الكذابة"، قد ولى إلى غير رجعة، وأدركت كذلك أن العالم بعد كارثة الحادي عشر من سبتمبر 2001 التي ارتكبها "مخابيل" تنظيم "القاعدة" الإرهابي، لم يعد يقبل من أي نظام عربي الخروج عن الإجماع العالمي والسير في طريق منفصل كما كان الوضع عليه في الماضي.
وفي الحالة السورية- اللبنانية التي أعقبت جريمة اغتيال "الشهيد" رفيق الحريري، فإن دفع بعض المحسوبين على الفكر العربي وعلى الثقافة العربية وعلى الإعلام العربي باتجاه المسلك الفاشي ورفع الشعارات "الشوفينية"، عبر تسخين الموقف، لم يكن في صالح أي من الطرفين، لا السوري ولا اللبناني. فسوريا التي وجدت نفسها بين أكثر من فك لأكثر من كماشة، اكتشفت أن السير على خطى العقيد الليبي معمر القذافي هو المسلك المقبول من جميع الأنظمة العربية الشمولية في عصر ما بعد جريمة 11 سبتمبر.
خطاب الرئيس السوري بشار الأسد وإعلانه عن الاستعداد للانسحاب من لبنان، يعني أن الكثير من القيادات العربية بدأت تتفهم المواقف، وتعي الدروس جيدا، وتعلم أن نفق الشعارات "الخرقاء" هو نفق مظلم ولا يؤدي إلا إلى الهاوية. وأن تلك المواقف المتشنجة لو كانت تصلح أو تعيد حقا، لكان ديكتاتور العراق المخلوع "صدام حسين" أشطر من غيره في استرجاع الحقوق، فقد كان هذا "المجنون" أكثر من يطلق الشعارات الجوفاء، ويرفض أن يتعلم أي درس، وكان بدلا من ذلك يسوق الناس فرادى وجماعات في شوارع المدن العراقية حفاة عراة، مدعيا أنه يملك "جيش القدس" أو رابع أقوى جيش في العالم، حتى صدق الكثير من "المثقفين" العرب ومن "المفكرين" العرب ومن "الإعلاميين" العرب ومن "المحللين" العرب هذه النكتة البايخة، ودفعوه دفعا إلى ارتكاب أكبر حماقة في التاريخ ضد الأمة العربية.
مرة أخرى، وثالثة ورابعة وخامسة.. نقولها بكل وضوح: لا للمزايدات ولا للشعارات التي لا تطعم خبزا، ولا تسد رمقا ولا تعيد حقا مسلوبا ولا تقنع عاقلا. العالم لا يقبل إلا الإنسان الواقعي.. فعصر المبالغات في صورة عنترة بن شداد الذي هزم ألف فارس بسيفه، لم يعد ينطلي على أحد.