لقد أثارت إدارة بوش, عدداً من الأفكار والقضايا حول مدى تباين مواقف الأميركيين والأوروبيين, إزاء معالجة ما هو خاطئ أو خطير في أنحاء مختلفة من عالم اليوم. فقد ذكرت الصحف الصادرة في واشنطن, أن الرئيس بوش عاد من جولته السياسية الأوروبية, وهو أكثر اهتماماً بالانضمام إلى الثلاثي الأوروبي المؤلف من كل من فرنسا وألمانيا وبريطانيا, والالتحاق بمدخله التحالفي لحل الأزمة الإيرانية. والمعروف أن التحالف الأوروبي يبذل جهوداً لإقناع إيران بعدم تطوير الأسلحة النووية, وبالمكاسب التي ستعود عليها, جراء تخليها عن هذه الأسلحة. إن صحت هذه الأخبار, فسوف تمثل تطوراً إيجابياً كبيراً في دوائر إدارة أميركية, عرف عنها حتى الآن, ميلها إلى القوة بدلاً من لجوئها إلى الدبلوماسية التي تتهمها بالضعف. فماذا حدث يا ترى؟ أهي زيارة واحدة فحسب, إلى كل من بروكسل ومينز وبراتيسلافا, وقد سحرت مارس "إله الحرب", وهوت به صريعاً لغواية وإغراءات فينوس "ربة الجمال"؟
ألا ما أكثر الشك. وفي المقابل, فأي وسيلة لتأكيد التفوق الأميركي على الأوروبيين وطهران, أكثر من إخطار كل من السادة بلير وشيراك وشرويدر, باستعداد الولايات المتحدة لدعم مقترحات الاتحاد الأوروبي الداعية لمكافأة طهران على تخليها عن مطامحها النووية, وسماحها لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة النووية, بمزاولة مهام التحقق من تخلي طهران فعلياً عن تطوير الأسلحة النووية؟ وأي سبيل أفضل للتفوق على غوايات "فينوس" وإبراز عضلات القوة التدخلية الحربية, من إعطاء الأوروبيين فرصتهم لتجريب سياساتهم مع إيران، ثم الفشل فيها؟ نقول الفشل لأن المرجح أن يكون خيار الحكومة الإيرانية أياً كانت, هو تفضيل منطق الحد الأدنى من الردع والمواجهة, على منطق التنازل والتساهل وتبادل الثقة, وفقاً للعرض الأوروبي المقدم لطهران.
ففي الحد الأدنى من الردع, ما يصد المنطق الأميركي والإسرائيلي القائم على القوة والتهديد, على افتراض أن الأسلحة الإيرانية المزعومة –إن كان لها وجود فعلي- فإنها ستكون مخبأة حيث لا يستطيع المهاجمون الوصول إليها وتدميرها. أما المستوى الثاني من الردع, فيتوفر بقدرة إيران على تسبيب الكثير من القلاقل والإزعاج الى الجارة العراق. ومنذ عام 2001, ظل الأوروبيون يبحثون عن جذور تلك الهوية القومية الأميركية, التي تفسر ميل الإدارة الحالية للقوة والأحادية والعنف في تحقيق مصالحها ومآربها الخاصة, وراء قناع ما يبدو على أنه مصلحة أميركية عامة. وقد ازداد شغف الأوروبيين لمعرفة تلك الجذور, سيما بعد فوز بوش بولاية ثانية في انتخابات نوفمبر المنصرم, مما يؤكد تأييداً شعبياً واسعاًُ لسياسات إدارته.
وهناك تعقيدات كثيرة يمكن أن تقال فيما يتعلق بطبيعة وجذور العنف في التاريخ الأميركي, وفي الشخصية الأميركية أيضاً. لكن وعند النظر إلى ظاهرة العنف هذه من منظور سياسي, فإنها لا تمت بأي صلة لتاريخ العنف الأوروبي. ففي بدايات القرن التاسع عشر, وصولاً إلى بدايات القرن العشرين, كانت الولايات المتحدة الأميركية, جزيرة معزولة وغارقة هي نفسها في الانعزالية, مما يفسر نأيها وعزوفها عن كل ما يمت بصلة إلى السياسات والحروب الأوروبية. وكانت تبدو تلك الحروب والسياسات في نظر واشنطن, كما لو كانت تعبيراً عن مطامع الأسر الأوروبية الحاكمة, أو ترجمة لنوازع ثورية, أو اندفاعاً وراء توسعات اقتصادية إمبريالية. وما بين حروب البلقان الطاحنة التي دارت رحاها في بدايات القرن العشرين, وحروب البلقان التي اختتم بها القرن الماضي, كانت أوروبا الغربية هي من أرسى جذور أكثر الحروب عنفاً ووحشية من دون أدنى تبرير, مما شهده تاريخ البشرية المعاصر.
صحيح أن الولايات المتحدة الأميركية خاضت حروبها الأهلية الخاصة خلال القرن التاسع عشر. وصحيح أيضاً أنها أدخلت الوسائل وتكنولوجيا الحرب الصناعية إلى ساحات الحروب, مقدمة بذلك أولى نماذج تحقيق النصر والتفوق على العدو, عبر الهجوم الساحق الذي لا يرحم, على مكامن ومواقع قوته الاقتصادية والاجتماعية. بخلاف ذلك, فالحروب والتدخلات الأميركية في كل من المكسيك وأميركا الوسطى والهند, ستكون أحداثاً ثانوية لا تذكرها حتى كتب التاريخ. أما الحرب الإسبانية التي وقعت في العام 1998, فقد كانت مغامرة رومانسية كبيرة بالنسبة للأميركيين –على رغم وقعها الفاجع على الإسبان- لكونها المغامرة الأولى التي تخفق لها قلوب الأميركيين, وتتجه إليها أنظارهم وآمالهم جميعاً, في اشتباك هو الأول من نوعه بذاك الحجم مع دولة أجنبية. ولم يكن ذلك الشعور ليصدق حتى على الحرب العالمية الأولى, التي كان فيها اشتباك الولايات المتحدة مع القوى الأجنبية, قصيراً وأكثر قرباً من سحابة صيف عابرة. فلم تزد مدة ذلك الاشتباك على الستة أشهر, بينما لم يتجاوز عدد القتلى الأميركيين فيها 54 ألفاً , مقارنة ببريطانيا التي صرع من جنودها ومواطنيها ما يتجاوز المليون قتيل, وفرنسا التي مات فيها ما يزيد على 1.7 مليون.
لكن وعلى رغم قصره