ما زال البعض من العرب معتقدا أن الشعب اللبناني شعب لم يبلغ سن الرشد بعد، وأن الدولة اللبنانية لم تزل قاصرة، لا تستطيع إدارة شؤونها بذاتها، وأنه لا بد من وجود "وصي" على الدولة والشعب في هذه البقعة الصغيرة العزيزة على قلوب العرب.
وهذا الاعتقاد الذي يذهب به البعض من العرب بعيدا جدا، فيدخله في متاهات "النضال" ودهاليز "القومية" ونفق "المقاومة" وشتات "الكفاح المسلح"، هو الذي أدى بنشوب الأزمة الحالية في لبنان، والذي أسقط حكومة عمر كرامي، وأدخل لبنان في فصل آخر من فصول المسرحيات العربية السمجة التي لا تنتهي.
البعض من العرب ما زال يعيش بعقله في بدايات ومنتصف القرن الماضي، أما جسده الذي أصبح آيلا للسقوط والانقراض، فإنه يعيش بيننا في زمن الألفية الثالثة.. فهو حين يتكلم عن لبنان، فإنه لا يضع في حسبانه أن هذه الدولة لها كيان وسيادة واستقلال، ولها أيضا دستور وتاريخ وحضارة وخصوصية.. فلا يضع ضمن اهتماماته وتحليلاته وحديثه عن الدولة اللبنانية أي اعتبار لكل تلك الأمور، بل يقفز فوق كل واقع، ويتحدث عن مصالح دولة (أو دول أخرى)، وسيادة دولة (أول دول أخرى)، وكيان دولة (أو دول أخرى)، وأمن دولة (أو دول أخرى)، باعتبارها مرتبطة كلها بلبنان، وكأن الملايين الذين يشكلون الشعب اللبناني، سواء في داخل المساحة التي تبلغ عشرة آلاف وخمسمائة كيلومتر مربع هي مساحة لبنان، هم فئران تجارب "كرمان شوارب" أمنه هو، وسيادته هو، واستقلاله هو، وحدوده هو، وسلامته هو!
ومثل هذا الأمر لم يعد ينطلي على اللبنانيين اليوم، وهم الذين يفترض أنهم كبروا في عيون هؤلاء "الرفاق"، وبلغوا سن الرشد، بل تخطوه بسنوات عدة، وأنهم، أي الشعب اللبناني خرجوا من مرحلة "البامبرز" التي فرضها البعض عليه، إلى مرحلة يقدر فيها كل لبناني أن يقرر ما هي سيادته بنفسه، وما هي حدود دولته بنفسه، وما هو أمنه وسلامته بنفسه، وما هي طبيعة استقلاله بنفسه.
أولئك العرب الذين يضعون لبنان في خانة الصفر، فيلغونه بجرة قلم من فوق الخريطة، ويزعمون أن أمن اللبناني سينهار باختفائهم من بين أحضان اللبنانيين، وأن حياة الشعب اللبناني سوف تنقلب إلى تعاسة بمجرد رحيلهم، وأن سيادة لبنان ستلغى في اللحظة التي يرفعون فيها وصاياهم عن الدولة اللبنانية، لم يعتبروا من دروس التاريخ ولا من حكم الجغرافيا، ولم يدركوا حتى اليوم، وبعد مرور كل تلك السنوات من مرارة ظهور الصورة العربية في شكلها "القومي" و"النضالي" و"الكفاحي"، بأن لكل زمان دولة ورجال، وأن ما كان يصلح لعصور مضت، ليس بالضرورة أن يكون صالحا لعصر لم يعد فيه مكانا للشعارات الرنانة والبيانات الخرقاء والكذب والدجل والسياسي، وأن العالم لم يعد يقبل اليوم التدليس باسم العروبة، ولا التلفيق باسم القومية، ولا الضرب من تحت الحزام باسم النضال، ولا بيع الأوطان وترويج الخطب والأقاويل والدجل باسم الكفاح المسلح والمقاومة الزائفة زيف النفوس والوجوه والعقول.
على العرب، وخاصة "الثورجيين" منهم، أن يعيدوا حساباتهم بدقة، وأن يعوا ويفهموا تماما أن للخديعة وجها واحدا، وأن الزمان الذي كان فيه للخديعة أكثر من وجه قد ولى إلى غير رجعة، وأن لبنان اليوم غير لبنان الأمس، وأن الشعب اللبناني قد بلغ سن الرشد وأن الدولة اللبنانية لم تعد بحاجة للوصايا العربية ولا حتى الوصايا "السبهللية"..
لبنان كبر.. بل أصبح أكبر مما يتصوره البعض.. وهذا ما يجب أن يدركه "الديناصورات" في دهاليز السياسيات العربية..