نفذت قوات بوش الصغير نصيحة اليهودي المتطرف "ناتان شارانسكي" وأطاحت نظامين من أنظمة الحكم الأوتوقراطية في منطقة الشرق الأوسط، وفي الوقت نفسه لا زالت مستمرة في الالتزام بهذه النصيحة وتهدد أنظمة أخرى في المنطقة. وقد وجدت إدارة بوش الصغير في الانتخابات الحل السحري لإقامة الديمقراطية في الدول التي حررتها من طغيان حكم الفرد وحولتها إلى صراع الجميع على الحكم. جرى ذلك في أفغانستان والعراق، والبقية تأتي. وعادة ما يواكب إجراء هذه الانتخابات ضجة إعلامية هائلة تبشر بحلول الحرية ونشر الديمقراطية وحل المشكلات جميعها، الأمر الذي دفع معظم حكام منطقة الشرق الأوسط إلى التركيز على الانتخابات والدعوة إليها والمناداة بها وجعلها المقياس الأساسي لتحولهم إلى الديمقراطية. ولكن هل الانتخابات وحدها كافية لتحرير الشعوب وإقامة أنظمة حكم ديمقراطية؟ وهل الانتخابات هي التي ستعيد السلطة إلى أصحابها الحقيقيين... وهم الشعوب؟ وهل تعد الانتخابات اختباراً حقيقياً لوجود الديمقراطية؟ وهل الانتخابات هي البداية الصحيحة لانطلاق المؤسسات الدستورية؟ وهل الانتخابات ستحول صراع عناصر التركيبة الاجتماعية لأي مجتمع على السلطة إلى سلام ووئام ومصالحة وطنية؟ وهل الانتخابات هي الحل السحري للإصلاح السياسي؟ وهل تستطيع الانتخابات أن تواجه العنف والتطرف وتضمن تحقق الأمن والاستقرار؟ وهل تستطيع الانتخابات أن تتغلب على تدهور مستوى المعيشة وانخفاض مستوى دخل الفرد وانتشار البطالة والفقر؟
أعتقد أن الإجابة على كل هذه الأسئلة وغيرها هي النفي القاطع، لأن معظم شعوب الشرق الأوسط تحتاج إلى ثورة شاملة في كل مناحي الحياة ومجالاتها، تهدف إلى نشر ثقافة الديمقراطية ونظم الحكم الصالح والتداول السلمي للسلطة وإصدار التشريعات المنظمة لها من جانب، وتضمن تطبيقها على أرض الواقع من جانب آخر، وفي الوقت ذاته تعمل على تغيير مفاهيم الحكم والسلطة، وتطور الأنظمة الإدارية البيروقراطية، وتقضي على التسلط والمركزية من أقل مستوى للإدارة، وتزرع قيم الحرية والعدالة الاجتماعية والشفافية ومكافحة الفساد في المجتمع، وتضمن الحد الأدنى من الحقوق للمواطن، وحيدة القضاء، وأن يكون الجميع أمام القانون سواء، لذلك نجد أن الانتخابات ليست وحدها العصا السحرية لحل المشكلات جميعها في مجتمعات لا تزال ترزح تحت نير السلطة والتسلط.
وليس خافياً على أحد أن أنظمة الحكم في معظم دول الشرق الأوسط تمر بأزمة نهاية العمر، شأنها شأن كل شيء في العالم العربي. ففي الوقت الذي تقترب فيه بعض الحكومات العربية من لفظ أنفاسها الأخيرة، تحاول تطويع قواعد وقوانين وأسس الماضي في التسلط والديكتاتورية والفساد الإداري، لتتكيف مع مطالب المستقبل، في محاولة لزيادة عمر هذه الحكومات إلى أطول وقت ممكن لتظل جاثمة على أنفاس الشعوب.
فمعظم حكومات الشرق الأوسط ترفع شعار "الإصلاح طريق إلى التنمية الشاملة"، ولكن في الواقع العملي لم تقم بأي إصلاحات دستورية تحد من احتكار السلطة، وتعيد التوازن في العلاقة بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وتضمن استقلال كل منها عن الأخرى، ولم تتحقق الرقابة والمساءلة. ولا توجد أدلة على أن الحكومات قد اتخذت من الإجراءات ما يضمن الشفافية فيما يخص حق المعرفة والنفاذ إلى المعلومات، أو فك الارتباط والهيمنة على وسائل الإعلام وإطلاق حرياتها، وفي الوقت ذاته لا تعترف معظم هذه الحكومات بأن الشعوب شركاء في تحمل مسؤولية الحكم. ومما سبق يمكننا القول إن حكومات الشرق الأوسط لا تكذب ولكنها تتجمل، فالشعارات لن تضرها شيئاً، في الوقت الذي تخدر فيه أولئك الذين يحاولون تصحيح الأوضاع.
لكل ذلك نجد أن الانتخابات ليست العصا السحرية للتحول الديمقراطي في دول الشرق الأوسط. ونحن نعترف بداية بأهمية الانتخابات، وأن إجراءها في حد ذاته يمثل نقلة نوعية للشعوب، ولكن كيف نضمن نزاهتها وصحتها ومصداقيتها، في ظل مجتمعات تربت على الخوف من السلطة، وتفتقر إلى الحد الأدنى من احترام الحقوق؟ إن هذه المجتمعات معرضة دائماً لمصادرة حرياتها، والكل فيها صامت عن قول الحق والحقيقة لينأى بنفسه عن الاعتقال أو السجن، والشعارات الزائفة تمجد أصحاب السلطة، وثقافة الذعر تدفع الكل للبطش بالكل، وتطلق عمليات الانتقام من عقالها من دون رادع وطني أو وازع ديني مبررة أعمالها بأنها الحرية.
وكيف نقنع الجميع، سواء المرشحين أو أصحاب الأصوات الانتخابية، أن يتخلوا عن عصبياتهم ويتنزهوا عن انتماءاتهم العرقية والطائفية ويبحثوا عن مصلحة الوطن، في الوقت الذي يفتقد فيه المواطن وطنه منذ عقود، ويحيا فيه غريباً؟ لقد ظل المواطن العربي يكيف نفسه على التعايش مع السطوة والهيمنة التي يفرضها النظام الحاكم وزبانيته، ولا يدلي برأي سلبي أو إيجابي في أي موضوع، إما لاقتناعه بعدم فاعليته أو لخشيته من العواقب، وحياته طويلاً في ظل مجتمع تحكمه ثقافة الخوف من النظام الحاكم، بل والخوف من كل من يمثلون هذا النظام· لقد تقبل