لا حديث لأهل العاصمة السودانية ولا هاجس لهم هذه الأيام إلا حادث انهيار كامل لمبنى من أربعة طوابق كان يراد له أن يكون مستشفى يحمل اسم "الرباط الوطني" وتشرف على تشييده وإعداده من الألف إلى الياء وزارة الداخلية. غرابة الحدث وشذوذه دفعت بعض الكتاب الموالين للحكومة للمطالبة علنا بوجوب استقالة الوزير على الفور. وهناك آخرون أبدوا رفضاً واستنكاراً لأن تكون وزارة الداخلية ذات شأن بالبناء والتشييد.
إن حادثاً كهذا، رغم فظاظته وبشاعته، كان يمكن أن يشغل الناس بعض الوقت ثم يطويه النسيان لو كنا في ظروف طبيعية ولكنه يجيء في وقت ومرحلة سياسية وجهت الكاميرات وشحذت الأقلام للنظر في قضايا الفساد المالي الذي جعل السودان مقارناً في تفشي الفساد فيه ببلد مثل نيجيريا، أو كينيا وغيرهما ممن صار الفساد سمة للعهود الحاكمة فيه، وقد لا يكون حادث انهيار مستشفى لم يتم بناؤه بعد واستوى على الأرض وطابقه الرابع في مستوى (التشطيب) إلا فاتحة لكشف عن نوع من الفساد ما عرفه السودانيون ولا ألفوه على طول تاريخهم.
هناك فساد معلوم ومعلن وهو ما يرفعه المراجع العام للبرلمان سنوياً موضحاً حجم المال الضائع نهباً مباشراً أو إهمالا واضحاً أو إنكاراً لكل اللوائح والقوانين التي تحدد وسائل إنفاق المال العام وأوجهه السليمة ولكن هناك ما خفي وهو الأعظم. ومهما حاول المبررون أن يقولوا ومهما جاهدوا لإخفاء الحقائق والتستر عليها فإن الباحث الأمين لا يجد العلة الأصلية إلا في حقيقة واحدة تتمثل في السياسة التي قررها نظام "الإنقاذ" منذ مولده وهي سياسة "التمكين" وهدفها الجوهري هو تمكن وتحكم الحزب وكادره المخلص في كل مفصل من مفاصل الكسب المالي، ولهذا اختفت من الحياة المالية والاقتصادية في السودان أسماء كانت راكزة وثابتة مالياً في الأسواق وظهرت على السطح طبقة جديدة من أثرياء الانقاذ. وفي جو كهذا لا تعجب إذا قامت وزارة الداخلية بمهمة وزارة الأشغال العامة وصارت أشبه بمقاول لا يملك أحد وسائل منافسته شرعياً، والحال فيما نرى لا يقتصر على وزارة الداخلية وحدها فلنترك ذلك ليوم محاسبة الحكومة إن كانت هناك محاسبة.
في حالة العمارة المنهارة سارع وزير الداخلية فعين لجنة للتحقيق برئاسة لواء من الشرطة وبعد أسبوع أو نحوه ألغى الوزير تلك اللجنة وأعلن أنه ترك المهمة لوزارة العدل. أي أنه حتى التحقيق في أفضل الحالات سيتم داخل جهاز الدولة وليس بصورة مستقلة حرة تماماً باللجوء إلى مئات من رجال القانون والهندسة ممن هم خارج هيمنة السلطة أو ظلالها.
إن قضية الفساد وما وصلت إليه في السودان من انتشار لن تنهيها أو تقضي عليها مقالات الكتاب مهما تعددت وجاهرت في القول واستخدمت أقوى العبارات وطرحت الدلالات. تلك القضايا أبعد غوراً من كل ذلك، وإذا كان من أمل باق في أن تتخلص بلادنا من هذا السرطان فهو مرهون بالتحول السياسي القادم وارتخاء يد "الانقاذ" في السلطة بكل أشكالها ومشاركة الحركة الشعبية لتحرير السودان وغيرها من فصائل المعارضة في السلطة ولو بقدر أدنى من الأغلبية، ذلكم هو الأمل الوحيد الذي يمكن أن نتعلق به في إعادة الوضع في السودان إلى طبيعته واجتثاث الفساد الذي أوشك أن يكون هو الأصل وليس العكس.
محجوب عثمان