إن ما حدث في لبنان من تفجير موكب رئيس الوزراء السابق لهو بداية الطوفان. ليس المهم من فعله؟ بل لماذا فعله؟ فالعلة الغائية عند الفلاسفة أقوى تأثيراً من العلة الفاعلة. فالغاية هي التي تحرك الأفراد والجماعات. وعندما يتم تمثلها تتحول إلى دوافع وبواعث تبدأ من الطاقة الفردية وتصب في الحراك الاجتماعي. ولا يهم الفعل نفسه والتحقيق، المحلي أو الدولي، والقبض على الجناة ومحاكمتهم أو الإشارة بأصابع الاتهام إلى هذا النظام الغربي أو القوة الأجنبية. بل ما يهم هو نتائجه والآثار المترتبة عليه على الصعيدين المحلي والدولي. وكأن نظرية "الدومينو" التي طبقت مرة في جنوب شرق آسيا وفي دول البلقان وفي أوروبا الشرقية تعود من جديد إلى الوطن العربي حتى تسقط أقطاره واحداً تلو الأخر. وغزو العراق ما هو إلا مقدمة لسلسلة طويلة من الغزوات الأخرى بأشكال جديدة، وليس بالضرورة بشكل العدوان المسلح المباشر من القوة الكبرى الوحيدة في العالم على إحدى الدول الصغرى بدعوى المروق عن النظام الدولي والعصيان لقرارات الأمم المتحدة.
عملية الاغتيال بلغت من دقة التنفيذ والإتقان ما قد يتجاوز قدرات أي نظام عربي. فقد استطاعت تكنولوجيا التفجير، وربما باليورانيوم المخصب، أن تتغلب على تكنولوجيا الدفاع والحماية بالمصفحات والمدرعات التقليدية. فالعملية أكبر من جهد فردي أو جماعي أو حتى قطري محلي. لا يستطيع القيام بها إلا إسرائيل أو أميركا أو كلاهما معاً. فهما الوحيدان الكاسبان منها، زعزعة الاستقرار في الوطن العربي، وتفجير ما تبقى من نظمه المتهاوية بضربة واحدة لإعادة تخطيط المنطقة من جديد طبقاً لميزان القوى المحلية والدولية.
وقد قامت القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وإسرائيل، بسبر واختبار مناطق الضعف في الوطن العربي من أجل النفاذ منها إليه. وهي مناطق نفاذ خلقناها بأيدينا، مثل الوضع الطائفي في لبنان وحرب أهلية دامت خمسة عشر عاماً دون حل لمشكلة الطائفة أو الوطن. وتتكرر نفس المشكلة في السودان في دارفور، بين الشمال والجنوب والغرب بعد أن عجزت المواطنة السودانية عن توحيد مناطق السودان. فأصبح العرب في مواجهة الأفارقة مما أعطى فرصة لقوى الاستعمار التقليدية لفصل الجنوب والغرب عن الشمال.
ووجود القوات السورية في لبنان وعدم انسحابها منذ تنفيذ بنود اتفاقية الطائف، وتغلغل المخابرات السورية وتدخلها في الشأن اللبناني أو تمديد الرئاسة الحالية لفترة جديدة ضد الدستور اللبناني أعطى ذريعة للقوى والمنظمات الدولية كي تتدخل في العلاقات بين سوريا ولبنان من أجل العدوان على سوريا بدعوى عدم تطبيقها القرار الدولي بالانسحاب من لبنان وتبني المعارضة اللبنانية هذا البند. وانقسم لبنان بين حكومة ومعارضة، بين موالين ومعارضين وشبح الحرب الأهلية لم ينقشع بعد. وكان العراق أيضاً قد أوقع في فخ العدوان على إيران الذي لم يدفع الولايات المتحدة للتحرك ضده لأنه كان ينفذ مطالبها بالتخلص من الثورة الإسلامية في إيران، عدو الشيطان الأكبر، وفي فخ العدوان على الكويت مما دفع الولايات المتحدة بالتحرك هذه المرة دفاعاً عن نفط الخليج، وحصاراً للقوة العراقية التي كانت تمتد نحو الجنوب لحصار شبه الجزيرة العربية من الشمال والجنوب معاً. وكانت الذريعة امتلاك أسلحة الدمار الشامل والتسلط، وإسرائيل مدججة بالسلاح، وأميركا تؤيد نظم التسلط في الوطن العربي ما دامت تابعة لها، تحقق سياساتها.
وكما تختبر القوى الكبرى مناطق الضعف في الوطن العربي فإنها أيضاً تتعرف على مناطق القوة في دول الجوار في العالم الإسلامي كي تقضي على السند والظهير في ماليزيا وأندونيسيا وإيران. فقد تمت من قبل محاولة ضرب العملة في جنوب شرق آسيا. وأندونيسيا أيضاً مهددة بتقطيع الأوصال بداية بتيمور الشرقية ثم أتشيه ثم التنصير على قدم وساق. أما إيران فهي الباقية التي لم تدخل بعد بيت الطاعة والتي مازالت تمثل بؤرة تجميع ومناهضة لقوى الهيمنة الكبرى. وتعمل على ما تبقى من وحدة العالم الإسلامي وتأييد قضاياه في سوريا ولبنان وفلسطين.
الطوفان قادم، وموجة جديدة من الهيمنة من الخارج والتفتيت من الداخل في الآفاق. البداية الجديدة بعد العراق، تفتيت لبنان، وإعادة الحرب الأهلية من أجل تركيز الطائفية والقضاء على وحدة الوطن والتخلص من نموذج فريد من الديمقراطية والتعددية السياسية وحرية الصحافة. فبيروت هي العقل العربي الذي يحاصر كما حوصر العراق الذي يقرأ. فيتم حصار العقل والعين معاً.
ثم يتم التخلص من "حزب الله" في الجنوب بعد اتهامه بالإرهاب في طريق التسوية العربية الإسرائيلية والقضاء على كل مظاهر المقاومة ونموذجها. وهي التي نجحت في تحرير الجنوب والقضاء على قوة وطنية قادرة على أن تكون منبراً للحوار بين الموالين والمعارضين في النظام اللبناني. وربما كان التخلص من رئيس الوزراء أنه كان رمزاً للوحدة الوطنية منسقاً مع "حزب الله" لحماية استقلال لبنان ووحدته وتجربته الديمقراطية.
ثم يتم شد ال