لا يزال الاغتيال الوحشي الذي تعرض له رئيس الحكومة اللبنانية السابق رفيق الحريري، يستحضر أسئلة ومسائل تبدأ ولا تنتهي. وهو ما أججته الجلسة البرلمانية المرفقة بالمظاهرة الشعبية، يوم الاثنين الماضي، بما أدى إلى إسقاط حكومة عمر كرامي بـ"طريقة أوكرانية". غير أنني سأتوقف هنا، من بين الأسئلة والمسائل الكثيرة، عند موضوع قد يوحي طرحه ببعض المبالغة، أملاً أن تقود الحجج نفسها إلى برهنة العكس. ليس من المبالغة أن يقال إن ما حصل في 1975، في ذاك البلد الصغير، كان من الأصول البعيدة للمأساة التي نزلت بنيويورك وواشنطن في 11 سبتمبر 2001. وهذا ما لم يعد يمكن غض النظر عنه في الوقت الذي ظهرت وتظهر أصوات أميركية وغير أميركية تطالب باعتماد النموذج اللبناني لما قبل 1975 في التعامل مع عراق ما بعد صدام. صحيح أن لبنان ما بين نشأته في 1920 وانفجاره بعد نيف ونصف قرن، قد عرف توترات وصدامات محدودة، إلا أنه، بمعزل عنها، ظل يشكل مثالاً بالغ التقدم بمعايير منطقة الشرق الأوسط. فهو وُلد بالأصل كاستجابة لفكرة "الحرية"، والمقصود هنا حرية الجماعات الدينية والمذهبية الكثيرة، ولم يولد كاستجابة لفكرة "الوحدة القومية" على ما كانت حال بلدان كسوريا. كذلك بُني كنموذج على تعاقد بين تلك الطوائف والمذاهب يُقرّ لكل واحدة منها بحصة في الكعكة. وهذه البراغماتية (التي تكمن أصولها في التجارة) تخالف التصور الأيديولوجي الذي عرفته معظم المنطقة في ما خص بناء الأمم تبعاً للنموذج الألماني- الإيطالي لأواخر القرن التاسع عشر. وبالطبع كان يمكن لهذه الطوائف أن تتنازع سياسياً لتحسين حصصها من دون أن يصل بها الأمر إلى الشك بمبدأ الحصص نفسه.
صحيح أن الطائفة المارونية التي كانت الحامل التاريخي لفكرة "اللبنانية"، حظيت ببعض الضمانات والامتيازات، إلا أن هذا لم يعنِ أن الحِراك السياسي كان مغلقاً أمام الطوائف الأخرى. فنحن بعيدون جداً عن حالة "الكاست" الهندي المغلق، ناهيك عن الأنظمة العنصرية في روديسيا وجنوب أفريقيا. ولم يكن تجديد التوازن الطائفي ودفع الرأسمالية إلى التمدد انطلاقاً من مهدها الأصلي في بيروت وجبل لبنان إلى باقي المناطق أمراً سهلاً دائماً. فقد اعترضته الاتجاهات الأكثر تحجراً داخل الطائفة المارونية، إلا أنها كانت تستسلم لوجهة التقدم كلما أحست أن النزاع داخلي بحت وأنه لا مصالح خارجية تقف وراءه. حصل هذا مع "الثورة البيضاء" ضد الرئيس بشارة الخوري في 1952 كما حصل في الستينيات حين انحاز "حزب الكتائب"، وهو الحزب الماروني الأول والأهم، إلى النهج الإصلاحي للرئيس فؤاد شهاب. وعلى الدوام كانت المبادرة الخاصة، بعيداً عن السياسات الاقتصادية المركزية للدولة، تتدخل لإحداث درجة أعلى من التجانس بين المناطق والطوائف، بحيث أصبحنا قادرين في السبعينيات على الحديث عن "طريقة حياة لبنانية" انعكست في توحيد المطبخ والفولكلور وتقريب اللهجات المحلية من لهجة مهذبة مشتركة.
لكن مبدأ التوازن الطائفي لم ينقذ لبنان من الانقلابات والديكتاتوريات العسكرية فحسب، بل أدى أيضاً إلى تطوير نظام سياسي يخالف النظامين السائدين في المنطقة كلها، أي النظم الوراثية المطلقة ونظم الانقلاب العسكري. وقد استند ذلك إلى طبقة وسطى كانت أعرض الطبقات الوسطى في الشرق الأوسط، كما أنتج حريات حزبية وصحافية ونقابية وبرلماناً كان في وسعها مجتمعة أن تشكل بدايات معقولة وقابلة للتطوير من حيث المبدأ. وربما كان أهم من كل هذا، على المدى البعيد، أن لبنان أنتج زواجاً راقياً بين الإسلام والمسيحية على الصعيد الفكري، لا بل الفقهي واللاهوتي أيضاً.
كذلك وفّر لبنان، الذي نجح بالديبلوماسية وعلاقاته الخارجية في تجنب حربي 1967 و1973 العربيتين-الإسرائيليتين، في أن يقدم صيغة معقولة جداً في التعاطي مع إسرائيل بانتظار أن يقوم سلام شامل: فمن جهة نشأت المقاطعة الاقتصادية طالما المشكلة الفلسطينية لم تُحل، ومن جهة أخرى اعتُمدت الهدنة العسكرية التي حالت دون التصالح كما حالت دون المواجهة والصدام. ولئن عبّر الالتزام بالهدنة عن التضامن مع الشعب الفلسطيني وعن إجمالي الموقف العربي آنذاك، فقد عبّر أيضاً عن حدود توازن القوى والقدرات المتوافرة، فيما كانت المقاطعة توفّر الحماية لاقتصاد لبناني ناشئ وهش من منافسة مع إسرائيل لا يقوى عليها.
وبكلمة أخرى، بدا لبنان في 1975 كأنه قطع مسافة طويلة جعلته يحتل مكاناً وسطاً بين ما هو حديث رأسمالي وديمقراطي وبين القديم الأهلي و"الشرقي". لكن الحرب جاءت تعلن انتصار الأخير بالاستفادة من عناصر عدة: فمن داخل الجو العام للحرب الباردة، فجّرت تداعيات حربي 1967 و1973 التناقضات العربية- الإسرائيلية على نحو لا سيطرة عليه. ولأن مصر خرجت من الصراع فيما بنت سوريا بوليساً كامل السيطرة على المجتمع، انحصرت المواجهة في لبنان، الذي لم تكف دمشق عن تهريب الأسلحة للمقاتلين الفلسطينيين فيه. وفي مناخ هذا الضغط، تحجرت الطبقة الحاكمة التي يلعب المسيحيون الموارن