نتناول من حين لآخر موضوع ما يسمى الديموغرافيا اليهودية أو تعداد الجماعات اليهودية في أنحاء العالم، وفي داخل فلسطين المحتلة لأسباب عدة: 1- من أهم هذه الأسباب أن ظهور الصهيونية مرتبط تمام الارتباط بتزايد عدد أعضاء الجماعات اليهودية بشكل مذهل خاصة في شرق أوروبا (بولندا وروسيا). فقد تزايد عددهم منذ نهاية القرن الثامن عشر حتى بداية القرن العشرين حوالي خمسة أضعاف. فعدد يهود أوروبا (بما في ذلك روسيا) عام 1800 كان لا يتجاوز مليوناً ونصف، زاد إلى 6 ملايين و858.000 (عام 1880) وإلى 8 ملايين و900 ألف (1900) و9 ملايين و100 ألف (1914) ووصل إلى ذروته عشية الحرب العالمية الثانية، إذ بلغ عدد اليهود في أوروبا 9 ملايين ونصف المليون (عام 1938). ولا يختلف الأمر كثيراً في أميركا الشمالية والجنوبية. فكان عدد أعضاء الجماعات اليهودية عام 1880 لا يزيد على 250ألفاً (قبل تدفق المهاجرين اليهود من شرق أوروبا) وأخذ هذا العدد يتزايد حتى وصل إلى مليون و200 ألف عام 1900، ثم 3 ملايين و350 ألفاً (1914) حتى وصل إلى 5 ملايين و500 ألف عام 1938. وتزايد عدد اليهود في آسيا حتى وصل إلى مليون عام 1938. وفي أفريقيا والشرق الأوسط تزايد العدد حتى وصل إلى 600 ألف في نفس العام. وإذا نظرنا إلى مجموع أعضاء الجماعات اليهودية في العالم فسنجد أن عددهم عام 1800 كان مليونين و500 ألف وأخذ يتزايد فوصل 7 ملايين و737 ألفاً عام 1880 و11 مليوناً عام 1900، ووصل الذروة عام 1938 إذ وصل عددهم 16 مليوناً و660 ألفاً.
ويلاحظ أنه ابتداء من القرن الثامن عشر بدأ عدد أعضاء الجماعات اليهودية في أوروبا يتزايد، إذ كان يوجد 2.5 مليون يهودي في العالم، منهم مليون يهودي فى الشرق ومليون ونصف في الغرب، ولكن في عام 1880 كان يوجد 7 ملايين و750 ألف يهودي في العالم، 88.5% منهم يعيشون في أوروبا و8% فقط يعيشون في آسيا وأفريقيا و250 ألفاً في أميركا الشمالية والجنوبية وأستراليا. هذا يعني أمرين:
أ- أن الظاهرة اليهودية أصبحت ظاهرة غربية وليست ظاهرة عالمية.
ب- أن هذه الطفرة السكانية فاقمت ما يسمى المسألة اليهودية، وخاصة أن الدولة الروسية القيصرية بدأت عملية التحديث بخطوات سريعة لم تسمح لأعضاء الجماعات اليهودية، المرتبطين بالاقتصاد القديم والحرف التقليدية ووظائف لم يعد المجتمع في حاجة إليها مثل التجارة والربا، لم تسمح لهم بمواكبة التطور، وبالتالي أصبحوا فائضاً بشرياً وجماعة وظيفية بلا وظيفة. ومما فاقم المشكلة أنه بعد أن ضمت روسيا بولندا ضمت الجيب اليهودي فيها الذي كان يتحدث اليديشية (وهي2 رطانة ألمانية دخلت عليها كلمات سلافية وعبرية وكانت تكتب بحروف عبرية) ولم تكن البيروقراطية الروسية تعرف هذه اللغة.
لكل هذا بدأت أعداد كبيرة منهم تتدفق على أوروبا الغربية والولايات المتحدة بحثاً عن مورد للرزق، الأمر الذي هدد الأمن الاجتماعي في هذه البلاد، وخاصة أن الجماهير اليهودية لم تكن عندها الكفاءات العلمية أو المهنية أو الحرفية التي تساعد على استيعابهم في المجتمعات التي هاجروا إليها. فأصبحت قضية الفائض البشري اليهودي قضية أساسية تواجهها هذه المجتمعات. فقامت إنجلترا على سبيل المثال عام 1905 باستصدار ما يسمى قانون الغرباء Aliens act الذي يمنع دخول المهاجرين (وكان المقصود هو المهاجرون اليهود من شرق أوروبا)، كما حاولت هذه الدول تحويل مسار الهجرة إلى أماكن غير أوروبا، فكان هناك مشروع الاستيطان في الأرجنتين ومشاريع أخرى مماثلة، لكن استقر الأمر على فلسطين بسبب أهميتها الاستراتيجية بحيث يتم تحويل الجماعات اليهودية التي أصبحت بلا وظيفة إلى جماعة وظيفية عسكرية تحمي المصالح الغربية في المنطقة. ومما له دلالته أن الوزارة البريطانية التي أصدرت قانون الغرباء كان يترأسها لورد بلفور، وأن التصريح بتحويل فلسطين إلى وطن قومي لليهود المعروف باسم وعد بلفور يحمل اسمه. فبريطانيا العظمى كانت ترفض دخول الفائض اليهودي إليها، وترحب تماماً بتحويله إلى فلسطين ليقيم دولة تخدم المصالح الغربية، أي أن الحل البريطاني للمسألة اليهودية، هو الحل الغربي الاستعماري لكل المسائل، والذي كان يعني تصديرها إلى الشرق! وبذلك يتم دمج اليهود في الحضارة الغربية من خلال التشكيل الإمبريالي الغربي بعد أن أخفقوا في الاندماج فيها من خلال التشكيل الحضاري الغربي.
وقد ظهرت الصهيونية لتقوم بتجنيد هذه الجماهير اليهودية المهاجرة وإدخالها في نطاق المشروع الاستعماري الاستيطاني الغربي من خلال استخدام ديباجات يهودية مثل "أرض الميعاد" و"العودة".
2- من الأسباب الأخرى التي تدعو إلى اهتمامنا بالبعد الديموغرافي أن الجيب الاستيطاني اليهودي له أهمية استراتيجية بالنسبة للغرب، الذي يقوم على حمايته وضمان أمنه واستمراره طالما أنه يقوم بوظيفته العسكرية. ولكي يقوم بهذه الوظيفة فإنه يحتاج لمادة بشرية لتقوم بملأ المستوطنات والحرب ضد السكان الأصليين من الفلسطينيين والبطش بهم لإخضاعهم. وبالتالي نج