لا زالت تطورات الأزمة اللبنانية وتداعياتها تفرض نفسها على المراقب. المهم هو استخلاص بعض النتائج الأساسية حتى لا يتوه المتابع للأمر بين هذا الكم الهائل من التصريحات، والتهديدات، والتكهنات.
أولاً: لم يتزعم رفيق الحريري قوى المعارضة ضد الوجود السوري في لبنان، وحتى عندما ترك الوزارة في سنة 2004 بعد إعادة انتخاب الرئيس اللبناني أميل لحود، فإن الحريري لم يقاطع دمشق. صحيح أنه كانت له تحفظات، وازدادت هذه التحفظات وأصبحت أكثر علانية ولكنها لم تصل أبداً إلى العداوة . ومع ذلك - وهذا هو التناقض- تم اغتيال الحريري ثم أصبح هذا الاغتيال الرمز الحي لتوحيد جهود المعارضة وبالذات ازدياد عنفوانها.
والتناقض الخاص باغتيال الحريري دون غيره يجيء من توجيه الاتهامات والتلميحات إلى النظام السوري وحلفائه، مع أن الحريري لم يكن من أكثر المعارضين عداوة لهذه الجهات، ولذلك وجب الانتظار حتى تنتهي لجان التحقيق المختلفة - دولية كانت أم وطنية- من جمع الأدلة اللازمة للوصول إلى نتيجة ثم وثيقة اتهام رسمية. قد يكون أحد أجهزة النظام السوري أو حلفائه مسؤولاً دون علم القيادة السياسية العليا، أو قد يكون الاغتيال من جانب خصوم سوريا لتهييج قوى المعارضة ضد دمشق، وهو بالطبع ما يحدث حالياً. وهذا هو في الواقع التناقض الثاني في مسألة اغتيال الحريري.
فالمعارضة اللبنانية تهدد الآن بمواصلة الاعتصام حتى يتم جلاء القوات السورية، أو على الأقل إعلان خطط ومواعيد الانسحاب السوري. ولا يمكن شرح هذا التناقض الثاني إلا بالتذكير بأن الشارع اللبناني قد وصل إلى درجة الاحتقان السياسي قبل اغتيال الحريري، ولم تستطع دمشق مداواة هذا الاحتقان أو حتى التحكم فيه وتهدئته. فوجئت دمشق وكذلك حلفاؤها بتطور الموقف هذا، وأصبح هناك عجز في إدارة الأزمة. وهذا هو في الواقع مربط الفرس، كما يقول التعبير العربي الفصيح.
ثانياً: وهذا الاستخلاص الثاني مهم لأنه يتعدى الوضع السوري لكي ينطبق على كثير من السياسات العربية، فالعجز في إدارة الأزمة يرجع إلى عدم مراقبة تطور الأحداث بالعلمية والجدية الكافيتين، وبالتالي يصبح تطور الأزمة عنصر مفاجأة يشل القيادة السياسية وأجهزة اتخاذ القرار ويستغله الخصوم للنيل من السياسات العربية. القيادة السورية مثلاً لم تراقب ثم تدرس احتقان الشارع اللبناني، ثم كثرة الضغوط الدولية، ثم عدم فعالية حلفائها العرب والدوليين. على العكس من ذلك، جاء هذا الإهمال أو التهاون من بعض الأجهزة السورية لكي يُضيّق من الخناق حول رقبة دمشق، ويُسهّل كثيراً من مهمة خصومها، خاصة الولايات المتحدة وإسرائيل.
ثالثاً: هل تتغير السياسة الأميركية في هذه الفترة أم ستكون استمراراً للولاية الأولى؟ فيما يتعلق بمنطقتنا ليس هناك تغير البتة في توجهات هذه السياسة، بل هي تزداد عداوة وعنفاً ضد أنظمة مثل سوريا وإيران. وإذا كان هناك تغير في هذه السياسة فهو على جبهات أخرى تزيد من الوضع السوري سوءاً. وأقصد بهذا الكلام طبعاً رأب الصدع بين أوروبا والولايات المتحدة بعد التوتر الشديد الذي شاب هذه العلاقات.
أهم مظاهر رأب الصدع هذا هو بلا شك جولة بوش الناجحة في أوروبا، بعد عودة الاتصال وحتى الدفء في العلاقات الأميركية- الفرنسية. ولا نغالي قط إذا قلنا إن أهم مرتكز لعودة العلاقات بين باريس وواشنطن إلى هذا المستوى هو توحيد وجهات نظرهما ضد دمشق، خاصة حول القرار 1559 والضغوط المتزايدة لتنفيذه. وقد يتطور هذا الدفء في العلاقات الفرنسية- الأميركية إلى دفء مماثل في العلاقات الفرنسية- الإسرائيلية لكي تزداد عزلة دمشق الدبلوماسية. والعزلة الدبلوماسية هي وسيلة مثلى لابتزاز التنازلات ومقدمة للانقضاض العسكري.