بداية، هناك عدة أسئلة تخطر على بالي هي: هل الولايات المتحدة - كأمة- لها ضمير؟. وهل أي شيء، وكل شيء، في أميركا ما بعد الحادي عشر من سبتمبر قد غدا مباحا؟. وإذا ما كان التعذيب مباحاً، وكان حرمان المتهمين من حقهم في إجراءات قانونية سليمة مباحاً أيضاً.. فما المانع أن نقوم أيضاً بإباحة القتل كذلك؟. وإذا ما كان في مقدور الحكومات أن تقوم ببساطة بجعل الناس يتلاشون، وهو ما تستطيعه فعلا، بل وتقوم به بالفعل، فأين هو الخط الذي يتعين علينا نحن - كأمة- عدم عبوره؟.
عندما أجريت لقاء مع "ماهر عرار" في "أوتاوا" الأسبوع الماضي، كان واضحاً لي- وبصرف النظر عن أن تعليقاته كانت تدل على عمق تفكيره- أنني كنت أتعامل مع شبح خائف مهزوز، لما كان يوماً ما إنساناً صلباً، سليماً، وقادراً على القيام بكافة وظائفه. إن الذي جعله كذلك هو التعذيب. فالتعذيب جريمة لا توصف، وهو أيضاً إهانة لإنسانية المرء، كما أنه قادر على أن يسلب من الإنسان جزءا من كيانه.
وكانت حياة "عرار" وهو مواطن كندي متزوج وله طفلان تسير كالمعتاد، وذلك قبل أن تنقلب رأساً على عقب، في ربيع 2002، عندما قررت وزارة العدل التي يرأسها "جون أشكروفت"، والتي كانت تتصرف في حالته - جزئياً على الأقل- بناء على معلومات مشكوك فيها، مقدمة من الحكومة الكندية، أنه سيكون من الأفضل بالنسبة لها أن تقوم باختطاف السيد "عرار"، وشحنه إلى سوريا، وهي دولة خارجة عن القانون، يعرف مسؤولو وزارة العدل جيداً أنها معتادة على التعذيب.
لم يكن السيد "عرار" متهماً بشيء، ومع ذلك حُرِم ليس فقط من حريته، وإنما أيضاً من جميع حقوقه القانونية والإنسانية، وتم تسليمه مكبلا بالأغلال إلى الحكومة السورية، التي قامت على الفور - لدهشته- بسجنه والشروع في تعذيبه. وبعد سنة خرج عرار من سجون سوريا دون تهمه، بعد ما قال معذبوه إنهم لم يستطيعوا انتزاع أي اعتراف منه، يثبت وجود صلة بينه وبين "الإرهاب". وبناء على هذا قاموا بإرساله مرة أخرى إلى كندا محطماً كي يتعذب في حياته إلى الأبد.
السيد "عرار" يمثل حالة أتيح لنا أن نعرفها. ولكن السؤال هو: كم غيره اختفوا على أيدي إدارة بوش؟. كم غيره.. تم إرسالهم دون ذنب ولا جريرة إلى معسكرات التعذيب؟. وكم عدد المسجونين الموجودين في السجون السرية التابعة لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في الوقت الراهن؟ من هم هؤلاء الأشخاص، وما هو نوع المعاملة التي يتلقونها؟، هل تم توجيه تهم باطلة لهم؟، وإذا ما كان الأمر كذلك، فما هي الجهة التي يمكنهم اللجوء إليها حتى تنصفهم أو ترفع عنهم ما تعرضوا ويتعرضون له من ظلم.
لقد أمضى الرئيس بوش معظم الأسبوع الأخير محاضراً للأمم الأخرى عن الحرية، والديمقراطية، وحكم القانون. لقد كان ما قام به يمثل في الحقيقة عرضاً لا مثيل له في الصفاقة. لقد بدا لي بوش كقاض يقوم بتجويع أطفاله، ثم يجلس على منصة القضاء لسماع قضايا إساءة معاملة الأطفال.
ففي "بروكسل"، قال السيد بوش إنه يخطط لتذكير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن الديمقراطيات تقوم - ضمن أشياء أخرى- على "حكم القانون، واحترام حقوق الإنسان، وكرامته".
هل هناك أحد يمكن أن يتطوع لإخبار ماهر عرار وعائلته بما قاله بوش!.
إن السيد "عرار" كان ضحية لسياسة أميركية تقوم على إلقاء القبض على الأشخاص، المشتبه في ضلوعهم في "الإرهاب" على ما يفترض، ثم القيام بإرسالهم للخارج، دون إيماءة واحدة للدولة التي يرسلون مثل هؤلاء الأشخاص إليها، والتي يعرفون أنها تمارس التعذيب ضد مواطنيها، بأنها يجب أن تراعي توفير الإجراءات القانونية المتعارف عليها.
لقد قام "إدوارد ماركي"، عضو الكونجرس عن ولاية "ماساشوسيتس"، باتخاذ خطوة تبدو معقولة في هذا الصدد، وهي تقديم مشروع قانون لحظر التعذيب باعتباره ممارسة ممجوجة. ففي كلمة له أمام مجلس النواب قال "ماركي"، النائب الديمقراطي:"التعذيب أمر ممجوج سواء قمنا به بأنفسنا، أم عهدنا لدولة أخرى بالقيام به بالنيابة عنا.. إنه إجراء مرفوض من الناحية الأخلاقية سواء تم تسجيله في فيلم، أو تم وراء أبواب مغلقة بعيداً عن أعين الشعب الأميركي".
من سوء الحظ أن فرصة مشروع القانون هذا في الحصول على موافقة الكونجرس ليست جيدة. ولقد قمت بنفسي بسؤال "بيت جيفريس"، مدير الاتصالات في مكتب "دينيس هاستيرت"، رئيس مجلس النواب، عما إذا كان رئيس المجلس يساند مشروع القانون الذي قدمه "ماركي". وبعد أن قام" جيفريس" بمراجعة الأمر مع خبراء السياسة في مكتبه، عاد واتصل بي ليقول لي إن "رئيس المجلس لا يساند مقترح ماركي، لأنه يؤمن بأن الأفراد المشتبه في كونهم إرهابيين يجب إعادتهم لبلادهم".
والحقيقة أنني اندهشت عندما سمعت منه ذلك. فلماذا يتعين إرسال من يشتبه في كونهم "إرهابيين" إلى أي مكان أصلا، ولماذا لا يتم احتجازهم ومحاكمتهم بواسطة الولايات المتحدة الأميركية؟
فكانت إجابته: حتى لا يقلق دافعو الضرائب من احتمال قيامهم بتحمل تكاليف محاكمة هؤلاء الأشخاص