في دراسته القيمة والموثقة "السودانيون والبحث عن حل لأزمة الحكم" يقول الأستاذ الدكتور فيصل عبدالرحمن علي طه - رئيس قسم القانون الدولي والمقارن بجامعة الخرطوم سابقاً-: "إن الإيمان بوحدة السودان الجغرافية-السياسية والحرص عليها، ينبغي ألا يطمس حقيقة مهمة وهي أن مهددات هذه الوحدة كانت ماثلة في الأفق قبل أن ينال السودان استقلاله في يناير 1956. فمقررات مؤتمر جوبا لعام 1947 لم تكن لوحدها كافية لاجتثاث الآثار والرواسب التي خلفتها السياسة الجنوبية، فقد عمقت تلك السياسة الإحساس بالتمايز العرقي والديني والثقافي بين الشمال والجنوب وجعلت الجنوبيين يستريبون في مقاصد ونوايا الشماليين...".
ونحن الآن في العام الخامس من القرن الحادي والعشرين، وبيننا وبين مؤتمر جوبا عام 1947، ثمانية وخمسون عاماً في حساب الأيام والسنين، فهل تغير الحال وتبدل وتلاشت "مهددات" الوحدة - وحدة السودان- التي كانت ماثلة في الأفق قبل أن ينال السودان استقلاله؟
واقع الحال يقول لا. بل إن واقع الحال الماثل الآن يقول إن مهددات خطيرة أخرى قد تضافرت لتصبح وحدة السودان عرضة للتمزق أكثر مما كانت عام 1947. فاشتعال الحرائق لم يعد قاصراً على "الأطراف الجنوبية" بل امتد ليشمل الأطراف الغربية والشرقية والتكتلات والتجمعات الجهوية والعرقية، والحروب القبلية أصبحت اليوم هي الأعلى صوتاً بل إن صوتها ونفوذها قد كبر وتضخم وعلا على صوت الوحدة الوطنية. والأزمة التي نشأت مع قيام الدولة المستقلة عام 1956 وتجذرت على مر السنوات وتعاقب أنظمة الحكم العسكرية والديمقراطية ما تزال مخلفاتها تخلق بيئة صالحة لنمو التطرف والعنف والنظر إلى الدولة باعتبارها عدواً وليس راعياً مسؤولاً عن رعيته.
والواقع المؤلم الذي يجب أن يستوعبه القادة والساسة السودانيون هو أن الإحباطات التي تراكمت على الناس قد خلقت لديهم إحساساً عميقاً بأن "وحدة الوطن" ما تزال في مهب الريح، ويزيد ويعمق من هذا الإحساس لديهم هذا التواطؤ السياسي الذي حرم عليهم المشاركة في تقرير أمور وطنهم وحل قضاياه الكبرى. فالناس عندما يجدون أنفسهم معزولين ومحرومين من المشاركة في أمورهم العامة ستزداد ريبتهم وشكوكهم في "مشاريع الحلول السياسية" المطروحة مهما كان نصيبها من السداد والصواب.
وليست هذه دعوة للتشاؤم ولا للتشكيك في جدوى اتفاقات السلام الذي يُجمع السودانيون على طلبه وتأييده، لكنها دعوة للنظر في أحوال الوطن وأزمته العميقة بالعقل والموضوعية والتجرد من شهوة المكاسب الحزبية الضيقة.
إن كل تجاربنا الماضية ومحاولاتنا المستميتة لتأكيد وحدة السودان الجغرافية- السياسية لابد قد علمتنا - وبأثمان فادحة- أن أزمة السودان هي أزمة واحدة لا تقبل الحلول الجزئية وأن أي حل لن يكتب له الدوام إلا إذا أنجز في ظل نظام مؤسس على الديمقراطية والتعددية وسيادة حكم القانون، كما خلص إلى ذلك الأستاذ الدكتور فيصل عبدالرحمن علي طه. والآن ونحن مقبلون على مرحلة انتقالية جديدة حددت ورسمت معالمها اتفاقات نيفاشا، علينا أن نبدأ بمواجهة أخطائنا السياسية التاريخية بشجاعة وصدق مع الشعب الذي هو في البداية والنهاية الذي دفع وسيدفع ثمن أخطائنا والذي هو في النهاية المفترض فيه أن يجني ثمار النجاح إذا تحقق النجاح للفترة الانتقالية واستطاع السودان أن يجتاز أزمته المستمرة زمناً طويلاً، وأن يدخل عصر الاستقرار والتنمية والوحدة الطوعية بأقدام ثابتة وقلب مطمئن.