في فترات الانتقال من نظام سياسي إلى نظام آخر تكثر الأخطاء كما يكثر التمويه والتزوير وعلى الأخص الخفي منها. المجتمعات العربية في الوقت الحالي تحاول الانتقال من النظام السياسي الاستبدادي الذي عاشته قروناً طويلة إلى النظام الديمقراطي الذي أصبح مطلباً شعبياً ومطلباً دولياً. وعليه فإنها ستمرُّ في تجارب الأخطاء والتزوير وكل أنواع الالتفاف حول استحقاقات الشعوب، مما سيتطلب الحذر الشديد في تقييمنا للأحداث وللقرارات، دعنا نذكر بعضاً من الأمثلة :
1- عبر عدة عقود مضت اجتاحت الكثير من بلاد العرب موضة "انتخاب" رؤساء الدول عن طريق الاستفتاء الشعبي. وبالطبع كانت النتيجة أن الاختيار كان صورياً وأن الرؤساء أصبحوا مخلَّدين. في فترة الانتقال الحالية هلّت علينا البشائر بأن الانتخابات لن تكون على شكل استفتاءات وإنما ستكون، كما ينبغي، في شكل انتخابات بين عدة مرشحين. لكن البشائر حملت روائح التمويه والتزوير. فلن يكون من حق أي مواطن ترشيح نفسه مباشرة كما هو الحال في البلدان الديمقراطية وإنما عليه أولاً أن يمرّ من خلال منخال في شكل مجلس نواب متضامن مع سلطة الحكم أو في شكل هيئة "مستقلة" يعينها من يحكمون. وبالطبع فإن منخالاً كهذا لا يمكن إلا أن يسمح فقط للضعاف أو المعتوهين أو الصوريين أو المكروهين بنزول الانتخابات. وبالطبع لن يشكل هؤلاء تحدياً جدياً للرئيس الحالي أو ابن عمه أو أي مرشح تدعمه مؤسسة الهيمنة السياسية. وهكذا ما تعطيه اليد اليسرى ستأخذه اليد اليمنى في حفلات صاخبة ستقيمها أجهزة إعلام السلطة أو الطفيليون العائشون على فتاتها.
2- يموت شخص سياسي بارز في حادث إجرامي بشع فيختلط الحزن المبرّر المعبّر عن التضامن الإنساني مع فواجع الآخرين مع اللّطم الهستيري ومع شقّ الجيوب. وشيئاً فشيئاً تبنى قداسة حول الميّت وهالة مفتعلة تُنسي الناس أخطاءه الكثيرة السابقة بل تنسيهم خطايا من مثل نهب الأموال العامة وممارسة الفساد القانوني وشراء الذمم وغياب الشفافية. وهكذا يتعلم الناس عدم القدرة على التفريق بين ما هو حق وضروري وبين ما هو باطل وغير مستساغ. باسم الحزن يلقى في سلة المهملات بقوانين الأحكام التاريخية وبقوانين التحليل السياسي الرّصين والصارم.
3- توضع الدساتير البالغة التقدمية والإنسانية التي تتحدث عن أن الشعب هو مصدر السلطات وبالتالي له حق تكوين المؤسسات السياسية التي ستخوض الانتخابات. لكن ما أن توضع القوانين التي تنظّم الحياة السياسية حتى تطل الطائفية والقبلية وكل أنواع الفئوية برأسها ويعود المجتمع إلى المربّع الأول في حياته السياسية. لكن الإعلام الرسمي لا يملٌّ من كرنفالات تمجيد مزايا الدستور النظرية لتغطية مساوئ القوانين المنظّمة له، فينسى الناس القوانين ويعيشون في أوهام الدساتير.
إن انتقال السلطة، وبالتالي المزايا الكثيرة، من يد الأقليات إلى يد الشعوب لا يمكن إلا أن يمر في أحوال الشدّ والجذب، ومحاولة الالتفاف والتأخير، بل ومحاولة إلباس كل خطوة بأقنعة ثقيلة تمنع الناس من رؤية الوجوه القبيحة التي من ورائها. هذا هو منطق تاريخ التغيرات الكبرى عبر مسيرة الإنسانية كلها. من هنا الأهمية القصوى لأن يدقٍّق الناس ويمحّصوا تمحيصاً شديداً في كل خطوة تدّعي التقدمية والتحديث والتغيير لنفسها.
لكن الثقافة السياسية عند المواطن العربي لا تزال غير كافية للقيام بتلك المهمة الحفرية التحليلية الصعبة أمام هذا الوضع، وحتى لا تمر كرنفالات التزوير والتحليلات السياسية الموجّهة بسهولة تؤخّر الانتقال المطلوب، هناك مسؤولية كبرى تقع على عاتق مؤسسات المجتمع المدني بكل أطيافها من أجل رفع الأغطية وتعرية المتلاعبين.