فتحت استقالة الرئيس عمر كرامي الاثنين الماضي الباب أمام مرحلة جديدة في الأزمة التي باتت مستحكمة منذ اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في 14 فبراير الماضي، فالدلالة الأهم لهذه الاستقالة هي أن تغييراً سريعاً يحدث في ميزان القوى بين ما صار يعرف بقوى المعارضة والموالاة.
فالقوى الموالية لسوريا تتراجع أمام زحف المعارضة الناجحة حتى الآن في استثمار الضغوط المتزايدة على دمشق. فهذه الضغوط لا تضعف مركز سوريا فقط، وإنما تؤثر سلباً على القوى الموالية لها في لبنان على نحو يؤدي إلى تغيير في ميزان القوى الذي كان مختلاً لمصلحة هذه القوى وبشكل حاسم منذ العقد الماضي. فالطريقة التي طُبق بها اتفاق الطائف، والتي تتعارض مع روحه وجوهره، أنتجت غالباً ومغلوباً. ولذلك يبدو أن الجديد الأهم الآن في لبنان هو أن المغلوب في المرحلة الماضية يترك في ظروف ملائمة له من أجل فرض معادلات جديدة على الأرض يمكن أن تجعله هو الغالب في الفترة المقبلة.
ولكن مثلما لم تكن غلبة الموالين لسوريا في مصلحة لبنان، كذلك لن تكون غلبة خصومها خيراً لهذا البلد الذي أثبت حيوية لا مثيل لها في المنطقة. فأكثر ما يحتاجه لبنان اليوم هو توافق وفق صيغة "لا غالب ولا مغلوب"، ولا يمكن الوصول إلى مثل هذه الصيغة إلا عبر حوار وطني جاد، ولا مجال لمثل هذا الحوار في ظل استمرار الوجود العسكري السوري.
ولذلك أصبح التعجيل بهذا الانسحاب ضرورة لضمان دور فاعل للقوى الموالية لسوريا في لبنان الذي تعاد صياغة معادلاته الداخلية هذه الأيام. وهذا هو جوهر التغيير الذي يحدث في لبنان اليوم، والذي تمثل استقالة حكومة كرامي مؤشراً واضحاً عليه. فبعد أن كان الوجود العسكري السوري مرجحاً لكفة القوى الموالية لدمشق، سيكون استمراره في الفترة المقبلة سحباً من رصيد هذه القوى.
ومع ذلك ما زالت هناك فرصة لتوافق وطني لبناني لا بديل عنه لوضع حد للاحتقان المتزايد ولفك ألغاز العملية الإرهابية التي استهدفت الحريري ووضعت لبنان في بداية طريق جديد. فالأكيد أن الوصول إلى المسؤول الحقيقي عن هذه الجريمة يساعد في إطفاء أو على الأقل تهدئة، النار التي اشتعلت في صدور كثيرين من اللبنانيين وهددت بإحراق هذا البلد مجدداً. غير أن كشف قاتل الحريري ليس أمراً يسيراً، وقد لا يمكن الوصول إليه في المدى المنظور، وقد يظل مجهولاً وتُطوى صفحته.
فالخبرة التاريخية تفيد أن معرفة الجناة في حوادث الاغتيال الكبرى من هذا النوع تستعصي ما لم يفصحوا هم عن أنفسهم ويعلنوا مسؤوليتهم، أو يكون ضحايا هذه العمليات مستهدفين في صراع محدد واضح المعالم معروفة ظروفه وأبعاده. فكلما كان الصراع محصوراً في دائرة معينة، سهل الوصول إلى القائم بعملية الاغتيال أو إلى صاحب المصلحة فيها، بخلاف الحال حين يكون الصراع مركباً متعدد الجوانب تتداخل فيه أبعاد داخلية وإقليمية ودولية. وهذا هو الفرق، مثلاً، بين اغتيال رياض الصلح عام 1951، واغتيال الحريري في فبراير 2005.
ولذلك سيكون صعباً الوصول إلى قاتلي الحريري استناداً على أدلة ثبوتية قاطعة أياً تكن القرائن التي قد تشير إلى أحدهم. فالقرينة تصلح في توجيه اتهام ضد جهة أو أخرى. ولكن الدليل الثبوتي هو وحده الذي يقطع الشك باليقين. ولا فرق بين تحقيق دولي وآخر محلي، والحال هكذا، إلا في مستوى الجدية والموضوعية. فالجريمة في حد ذاتها هي من النوع الذي يسهل فيه توجيه الاتهامات، فيما يصعب إثبات أي منها بدليل قاطع.
فالمعتاد أن تتعدد الاتهامات في جريمة تقترن بصراع مركب متداخلة أبعاده، وأن تأخذ ألواناً سياسية شتى. إن اتهام سوريا رائج أكثر من غيره، ويجد سنده الرئيس في انتقال الحريري إلى مواقع المعارضة اللبنانية الأمر الذي دعمها وأضفى عليها مصداقية ووفر لها عمقاً كانت في أشد الحاجة إليه وأعطاها بالتالي وزناً ما كان لها أن تكتسبه من دون اتخاذه الموقف الذي اتخذه.
فهناك منطق وراء اتهام سوريا، وثمة قوى محلية ودولية لها مصلحة في ترويجه، وقد راج فعلاً إلى حد أنه بات يشكل عنصر ضغط سياسي متزايد على سوريا والقوى اللبنانية الموالية لها. غير أن شيوع اتهام ما ورواجه لا يعني ثبوته. فهذا رواج سياسي لا علاقة له بالأسس القانونية اللازمة لإثبات أي اتهام وتثبيته، كما أنه ليس الاتهام الوحيد الذي يتردد. فإذا كان اتهام سوريا يبدو منطقياً من حيث وجود مصلحة لدمشق في غيابه فهذا المنطق نفسه يمكن أن يقود إلى استنتاج مختلف. فالمنطق الذي يفيد أن سوريا تحقق مكسباً من جراء اغتيال الحريري يمكن أن يقود في المقابل إلى أن هذا الاغتيال يعرضها إلى خسارة قد تفوق المكسب المتحقق.
ولذلك ذهب بعض من رأوا في الاغتيال خسارة لسوريا، ولم يقتنعوا في الوقت نفسه باستبعادها من دائرة الاتهام، إلى احتمال أن يكون أحد أجهزتها الأمنية هو الذي ارتكب الجريمة دون أن يعود إلى المستوى السياسي. ولكن هذا تقدير لا سند له إلا توقيت استبدال رئيس جهاز الاستخبارات العسكري السوري.
وصحيح أن