في دول العالم المتحضر نسمع ونشاهد حملات انتخابية في المجالس المتعددة تعتمد على البرامج التي يتعهد المرشح بتنفيذها حال فوزه. ويقوم المرشح بتلمّس احتياجات منطقته واعداً بإصلاح ما يحتاج إلى إصلاح ضمن هموم المواطنين وتطلعاتهم، كما أن المرشحين يُعدون برامجهم الإصلاحية ضمن المنظور القومي الذي يفيد المجتمع.
في العالم المتحضر لا تنتشر الخيام المطهمة وتُنحر الذبائح وتتضمخ البشوت بالعود النفيس، وينتشر "الوهم" الديمقراطي بين أفراد القبيلة من الميسورين القادرين على "الدفع"، حتى نقداً، كما حصل في دول عربية ثرية قبل سنوات.
المشكلة التي تعانيها الشعوب العربية - حديثة العهد بالتوجه الديمقراطي- أنها "تصدّق" وهم الديمقراطية، وتعتقد الشخصياتُ "الميسورة" التي تتفق مصالحها مع مصلحة الأنظمة أنها ستحقق للمواطنين ما يطمحون إليه. المشكلة أن هذه الشعوب تعودت على مسألة الـ(Show) في كل شيء حتى في الاقتصاد أو السياسة أو التطبيب أو كرة القدم! واليوم وإثر حتميات حضارية، ومحاصرة دولية، تلجأ هذه الأنظمة - التي نامت سبعين عاماً- لتعلن بدء مرحلة الديمقراطية كـ"هبة" من النظام إلى الشعب المسكين.
وإذا ما نجح الميسورون الذين يبالغون في فرش الخيام ونحر الجمال والخراف، وهم يعيشون ضمن "نعماء" النظام - أي نظام- فما الجديد الذي يمكن أن يقدموه سوى شراء "بشوت" جديدة و"الترزز" في مجالس صورية بعيدة عن الشكل الديمقراطي المتعارف عليه؟. ذلك أن مصالحهم مرتبطة ببقاء شكل النظام دون تغيّر. حيث إن أي تغيّر في شكل النظام سيكشف العلاقة التي تعيش تحت الطاولة بينهم وبين النظام، وبكل ما فيها من فساد إداري ورشوات وسوء استغلال المنصب، والواسطات ومحاربة العقول النيّرة التي تحاول فعلاً قيادة المجتمع إلى الحياة الديمقراطية الحقة.
ونلاحظ أن معظم التوجهات نحو تحديث المجتمع -خصوصاً في الخليج- تركّز على أن التغيّر يجب أن ينبعث من الداخل، وهي إشارة واضحة إلى "رفض" الإملاءات الأميركية التي "تحشرها" الولايات المتحدة تحت أنوف البعض!
كما أن التوجه الديمقراطي "المسرحي" دوماً يركز - في إعلاناته الصادرة عن القصور أو الدواوين- على التدرج الديمقراطي المدروس! وهو توجه - وإن كان له وجه جميل- إلا أن وجهه الآخر ليس جميلاً، بحكم سياسة "التأجيل" التي درجت عليها الأنظمة العربية، بحيث تبقى الأحوال كما هي عليه، حتى يطرأ حدثٌ مهم وبارز ينال من الأمة، وبالتالي يتم الإعلان عن تأجيل الخطوات الديمقراطية لاعتبارات قومية وأمنية... وهكذا تضيع الفرص الديمقراطية!
ولعل آخر المظاهر "المسرحية" التي انتقدها الدكتور غازي القصيبي وزير العمل السعودي هي حملات المجلس البلدي في السعودية، وهي المرة الأولى التي تظهر فيها صناديق الاقتراع في هذا البلد، حيث قال:"لا نرغب أن تتحول الانتخابات إلى مهرجانات للذبائح".
الإشكالية الأساسية في التجارب الديمقراطية في منطقة الخليج تتلخص في البرامج التي يقدمها المرشحون وشكل انتخابهم استناداً إلى التركيبة السكانية في البلدان الخليجية. فهنالك حقيقة لابد أن تكون واضحة لدى القائمين على الشأن الديمقراطي وهي أن معظم المفكرين وحاملي لواءات التغيير من المثقفين ليسوا من الأغنياء الذين يقدرون على نصب الخيام الوارفة ونحر الذبائح ولا حتى نحر الدجاج!
والحقيقة الثانية أن هنالك من العائلات في منطقة الخليج ما يتم تصنيفها على أنها من الدرجة الثانية، وبالتالي لا يحق لها الترشح وإن سُمح لها باستنشاق الهواء مجاناً على الأرض. وفي هذه الفئة مجموعة من التكنوقراط والمهنيين الذين تحتاجهم الأوطان... لكن القوانين لا تؤهلهم لخوض التجارب الديمقراطية ناهيك عن فئات "البدون" والتي تشكل عقبة في درب الديمقراطية، وكذلك قضية "التجنيس" التي خلقت مشاكل وصراعات لبعض الأنظمة التي وثقت بمصداقية "الولاءات" المزيفة، لكن التجارب أثبتت عكس ذلك!
لكل ذلك يحق لنا القول: إن التجارب الديمقراطية أو أشباهها تظل عرجاء ولن تحقق طموحات الشعوب. كما أن "البرلمانات" هي الأخرى تضمن "مَنَعة" النظام وصيرورته بحكم قضية "التعيين" الذي يحفظ بقاء الحكومة وإملاءاتها عن البرلمان.
الشعوب في الخليج تصالحت مع الأنظمة، وهذه حقيقة، لكنها أيضاً تعلمت... ونضجت... وحان الوقت كي تشهد التوازن العقلاني الذي يُبعد عنها مشاهد "المعزّب والصبي" التي قيّدت حياة المواطنين ردحاً من الزمان. كما أن حالات الانفتاح المعلوماتي وحرية التعبير التي تشهدها المنطقة، والفضائيات والأنترنت، تحتم المطالبة بالمساواة في المواطنة كـ"حق إنساني" يلغي التصنيف الاجتماعي الطبقي، الذي يجعل من المواطنين درجات، وهو شرط يخالف الديمقراطية في صورتها الحقيقية، إذ أن تحقيق هذه المقاربة من شأنه أن يعزز دور المفكرين وأصحاب الرؤى المستنيرة لخدمة مجتمعاتهم ويجعل الحوار تحت قبة البرلمان حضارياً، وبعيداً عن العصبية الجاهلية التي شهدناها في بعض التجارب. كما أن انتفاء المصلحة الاقتصادية بين