هناك انتخابات في العالم العربي، ويظن الناس أنهم وصلوا إلى شاطئ الحرية بسلام، وأنهم دخلوا عصر التنوير، وأن أميركا جاءت لزرع الديمقراطية، ولكنهم يرتكبون ثلاثة أغلاط؛ فأميركا ليست عندها رسالة بل مصلحة، وهي تنسف طاغية وتحافظ على طواغيت، حسب مقاييس البنتاغون، أكثر من مقاييس الديمقراطية، وهي قصة معروفة ومكررة، كتب عنها نعوم تشومسكي كتاباً كاملاً محبطاً بعنوان "ردع الديمقراطية".
ومن دخل عصر التنوير من باب السياسة دخله من الباب الخلفي، وحينما كان الفيلسوف "إيمانويل كانط" يكتب رسالته حول التنوير (Die Aufklaerung) لم تكن هناك انتخابات في ألمانيا.
كما أن الانتخابات لا تعني الديمقراطية، فليس هناك من مكان تزور فيه الانتخابات مثل جمهوريات الخوف والبطالة؛ فترى الناس يذهبون إلى صناديق الانتخابات خاشعين من الذل، مثل المسحورين، تحت ضغط شعورين: أنهم يجب أن يذهبوا، ويجب أن يقولوا نعم لمرشح واحد. والكل يعلم أنها انتخابات مزورة تجري تحت أعين "الجاندارما" ورجال المخابرات، التي تحصي دبيب كل نملة، وطنين كل نحلة، ولا تأخذها سنة ولا نوم، ولكن متى كان السحر مفهوماً أو عقلانياً؟
واليوم وفي العديد من الدول العربية تجري الانتخابات أو يُعدُّ لها، وتنقلب محاور الزمن، ويعاد نفخ الروح في ملكيات ماتت ومن خلال الانتخابات. وفي يوم قال مالك بن نبي إن الفرق الصوفية القديمة تحولت إلى أحزاب سياسية وبطاقات الانتخابات إلى حروز وتمائم، وهو ما حذر منه الإمام الشيرازي في انتخابات العراق التي حصلت، والتي كرست الطائفية والعرقية. كما أن الديمقراطية مفهوم رجراج ولكنها الموضة الدارجة اليوم، ونفس ديمقراطية أثينا ضحت بأعظم عقل بشري فأرسلت سقراط إلى الإعدام.
وما أريد أن أقوله إن رصيد الانتخابات هو الوعي، أكثر من صناديق الانتخابات، وإن التمثيل الفعلي لإرادة الأمة يعتمد على آليات تخضع للوعي والمراقبة، فلا يعول مطلقاً على الطيبة عند الإنسان. وأي إنسان ملك القوة تحول إلى طاغية، وأي سيارة ليس فيها فرامل مصيرها إلى الكارثة، وأي مجتمع يمسكه صداديم صغار وكبار فمصيره إلى الهلاك.
وفي الحديث أن الإنسان الذي يقدم نفسه للولاية لا يمنح هذه الولاية، وهي آليات الديمقراطيات الحديثة، فجاء في الحديث "والله إنا لا نولي هذا الأمر أحدا سأله". وفي الحديث أيضاً إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة، ومنذ زمن بعيد ذهب المثل العربي "يا حبذا الإمارة ولو على الحجارة". وذكر "أبو حامد الغزالي" في كتابه (إحياء علوم الدين) أن آخر ما يخرج من قلوب الصالحين هو حب الرئاسة، وعلل ذلك بأنها متعة الألوهية. والتوحيد أصله سياسي وليس لاهوتياً، وإلا لكانت بعثة الأنبياء والرسل في التاريخ سهلة. ولا إله إلا الله تعني نسخ ألوهية البشر السياسية. ومشكلة العالم العربي الحالية هي هذه الوثنية السياسية لو كانوا يعلمون.
والغرب حل هذه المشكلة العويصة فلم يعد الحاكم إلهاً، وكان من قبل كذلك، والملك هنري الثامن تزوج ست زوجات طارت رؤوس ثلاث منهن بالمقصلة على الشبهة، وكان يردد أنا الملك مفوض من الله، وهو الذي أنشأ الكنيسة الأنجليكانية فأصبح باباً في لندن.
وهذا يخبر عن أهمية الأمر الذي ألح عليه القرآن في نسخ عبودية البشر، وأنه ما أرسل من رسول إلى قومه إلا بهذه الكلمة (يا قومي اعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلا تتقون).
والسياسيون الكذابون اليوم هم مثل سحرة موسى يلقون حبالهم وعصيّهم لجمهور أمي يستقي ثقافته من محطات فضائية تنشر التضليل أكثر من الثقافة، بعد أن ودع الجمهور الكتاب وتحول إلى ثقافة المشافهة، ولم تكن المشافهة يوماً ثقافة. وحينما تأتي أميركا لزرع الديمقراطية فيجب أن نفكر في الموضوع ألف مرة، و"سيمور هيرش" حسب مجلة "ديرشبيجل" الألمانية في حديثه عن حروب أميركا المستقبلية وضربة إيران الوشيكة قال: إن أميركا تعتمد أصدقاء ديكتاتوريين في المنطقة العربية، وذكر بلداناً ثورية عربية دأبت على شتم أميركا ظاهرياً والتعاون معها سراً.
وحينما نسمع حوار اثنين من السياسيين العرب عن الديمقراطية فيجب اتباع نصيحة الفيلسوف "شوبنهاور"... أن نراقب حوارهم مثل أي مسرحية هزلية يؤدي دورها أحمقان.