يقدم الشعب اللبناني نموذجاً حضارياً لعالم عربي أحوج ما يكون للنماذج السلمية النضالية. نموذجاً مقاوماً يتناقض في الشكل والمضمون مع ما تعودناه من نماذج أخرى اعتمدت العنف شعاراً ومنهجاً مساهمة في تفتيت عالمنا وتهديد أمنه واستقراره وتنميته. فالشكل اللبناني للمعارضة استلهم الطريق السلمي والسياسي وشكّل مظلة وطنية جامعة غطت سائر الأطياف وتجمعت حول العلم الوطني دون غيره من الشعارات والبيارق الحزبية والفئوية. رايات حمراء وبيضاء عبرت عن وحدة هذا الوطن المعذب تعبيراً يتحدى التقسيمات التي طالما ارتبطت في أذهاننا بهذا البلد الطموح. وفوق ذلك كله نجد أن النموذج اللبناني في صورته هذه جاء ليلغي نماذج الكهوف وأشرطة قطع الرؤوس و"بطولات" تفخيخ السيارات واستهداف المدنيين وأرزاقهم والتي طالما عانينا منها في السنوات الأخيرة. فالتغيير في الحالة اللبنانية استند إلى المطلب الشعبي والضغط النيابي والكلمة الحرة وكانت وسيلته سلمية وعفوية وصادقة. وقيم الانتفاضة اللبنانية ومطالبها كانت ضمن ما نعده اليوم قيماً إنسانية لا يختلف عليها اثنان، ومن يختلف على قيم كالحرية وسيادة دولة القانون والمؤسسات وفوق ذلك كله الاستقلال والسيادة الوطنية؟.
ونحن نتابع الأحداث المدهشة في وسط بيروت نشعر بأن العالم العربي، ومن خلال الحالة اللبنانية، جزء لا يتجزأ من الحراك الإنساني الإيجابي الذي يرفض دول الاستخبارات وأجهزتها وقمعها وينشد الشفافية وكرامة الفرد وعودة الممارسة الدستورية الحديثة لبلد قام على هذه المبادئ، ولن يزدهر إلا بإعادة إرسائها من خلال السيادة الكاملة للدولة الوطنية على أرضها وشعبها. فلبنان لا يمكن أن تقوم له قائمة ولن يلعب دوره العربي المنفتح إلا من خلال هذا الإطار.
طالما تابعنا، وتابع معنا العديد من العرب، بالكثير من الإعجاب عزيمة الشعوب وسعيها من خلال التنظيم السلمي للتعامل مع احتقاناتها، وكيف استطاعت من خلال الإرادة السلمية أن تنتقل من الحالة الاستبدادية لتسير على طريق الإصلاح والمشاركة والتنمية. وانتصار إرادة الشعوب يمثل المستقبل الذي لا يجوز أن يتخلف عنه العرب تحت أعذار واهية وشعارات مللناها مدركين أنها مجرد مبررات لاستمرار النهج الاستبدادي في العديد من الأقطار العربية. واليوم ونحن نتابع ما يجري في لبنان، ندرك، وبكل بساطة وصراحة، أن العرب مثلهم مثل سائر الشعوب لا يعانون من نقص حضاري أو أزمة ثقافية ولكنهم، ومن خلال الوسائل السلمية، يسعون إلى نموذجهم الذي يعبر عن تطلعاتهم إلى وطن جامع أكبر من الطوائف، يحترم الاختلاف ويؤطر له من خلال هيكل دستوري ديمقراطي يسعى للتنمية والحياة الكريمة.
الطريق أمام اللبنانيين كان دائماً متعرجاً ولم يكن أبداً سهلاً، والتفاصيل الدموية في تاريخ لبنان الحديث بعدد أحجار جباله. ولعله القدر أن إحدى أكثر الجرائم دراماتيكية ألا وهي جريمة اغتيال المرحوم رفيق الحريري كانت هي الشرارة التي حركت المشهد بوتيرته المتسارعة خلال الأسابيع الماضية، وهذه الجريمة البشعة بينت ما كان واضحاً ومتراكماً ألا وهو أن الشعوب في عالمنا العربي لا تريد أن يستمر الفيلم العربي طويلاً، بل هي تطمح إلى أن تلحق بركب العالم حولنا وأن تمارس الحقوق التي تمارسها الشعوب من الأقاصي إلى الأقاصي.
بطبيعة الحال ترتبط التطورات اللبنانية والإقليمية بأحداث عديدة ألمّت بعالمنا العربي. أحداث عديدة معقدة شملت الحادي عشر من سبتمبر وسقوط النظام البعثي في العراق، والربط واضح ولا يتطلب الكثير من الذكاء، وهو ربط اتصل بتكلس وفشل في إدارة الدولة في العديد من الأقطار العربية، حيث ما زال الإطار السياسي يعود لعقود سابقة ولا يستطيع التعامل مع عالم وبيئة سياسية واجتماعية متحولة وسائلة. ولا يعني ذلك أن العالم العربي أصبح انتقاله الإصلاحي والديمقراطي مضموناً، ولكنها فرصة تاريخية أمام العرب نظماً وشعوباً لاستغلال هذه اللحظة التاريخية والبناء عليها على أساس معاصر وحديث.
ما زال الطريق طويلاً أمام لبنان واللبنانيين ليستردوا سيادتهم وحريتهم ودولتهم التي يستحقونها. وإذا كان المرحوم رفيق الحريري قد لعب الدور المحوري في عملية الإعمار وفي إعادة تأهيل البنية التحتية فإنه، ومن خلال تضحيته الكبرى، كان المحرك والمحرض لهذه الشرارة الخيرة التي تطمح إلى إعادة إعمار النظام السياسي ليشعر من خلاله اللبنانيون جميعاً بأنهم جزء من مشروع حضاري متكامل يقدس حرية وحقوق المواطن في ظل دولة قانون كاملة السيادة والاستقلال.