اشتعل الجدل على نحو ما نرى ونسمع بين من يراهنون على الانتخابات العراقية كنقطة انطلاق لبناء عراق ديمقراطي جديد، وبين من يقطعون بفساد هذا الرأي استناداً إلى استحالة البناء الوطني في ظل الاحتلال، وتُكتب هذه السطور في يوم الانتخابات نفسه وإن بدأت هذه الانتخابات قبل ذلك خارج العراق، ولذلك فإن التوقف عند نتائجها ودلالة هذه النتائج بالنسبة لمستقبل العراق قد يكون موعده في الأسبوع القادم لكن الأمر لا يمنع من بعض الملاحظات التمهيدية المهمة المستمدة من سياق الجدل الدائر حول هذه الانتخابات، وثمة ملاحظات ست تبدو أهم من غيرها في هذا السياق.
تتعلق الملاحظة الأولى بمدى وجاهة القول بعوار بناء الديمقراطية في ظل الاحتلال سواء لأن سلطة الاحتلال هي التي كانت لها اليد العليا - أو على الأقل حق الاعتراض النهائي- على تقرير قواعد اللعبة السياسية التي تتم بموجبها الانتخابات الحالية، وذلك باعتراف ممثل الأمم المتحدة نفسه في العراق السيد الأخضر الإبراهيمي، أو لأن هناك تدخلاً في تحديد "هيئة الناخبين" بمنع فئات بعينها كأعضاء حزب البعث المنحل من التصويت أو السماح لهم بذلك بشروط تتناقض مع حق المواطن في الانتخاب، وهكذا تعود المقولة التي انتُقدت بشأنها النظم الثورية العربية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي:"الحرية كل الحرية للشعب ولا حرية لأعداء الشعب"، ويبدو أنه لا جديد تحت الشمس في ظل "محرري العراق" من الاستبداد السياسي. وثانياً لأن هناك من يرفض الاحتلال من حيث المبدأ - وهذا حقه بطبيعة الحال- ومن ثمّ يرفض المشاركة في أية ترتيبات يضعها أو يسمح بها. وثالثاً لأن هناك من لا يرفض الانتخابات من حيث المبدأ غير أنه يرى أن النحو الذي نظمت به ينذر بجور على وضعه في المعادلة السياسية العراقية ومن ثم فهو يقاطع الانتخابات. تتنوع الأسباب إذن لكن النتيجة تبقى واحدة، وهي أن علامات الاستفهام الكثيرة حول شرعية إجراء الانتخابات في ظل احتلال يرفض أن يحدد أمداً لرحيله مفهومة ومشروعة. ويلاحظ أن هذه الخلاصة ليست من قبيل "اللغو" القومي العربي كما يحلو للبعض أن يصور الأمر، فجوهرها نطقت به ألسنة كبار الساسة في بلاد غير عربية لا يمكن أن توصف بالعداء للولايات المتحدة كروسيا وفرنسا.
أما الملاحظة الثانية فتتعلق بإجراء الانتخابات في ظل الانفلات الأمني الخطير الذي تشهده الساحة العراقية حالياً، فلو كانت سلطة الاحتلال قد نجحت في تحقيق الاستقرار في العراق لأصبح معارضو الانتخابات في مأزق نسبي: لماذا لا تشاركون في الانتخابات أيا كانت تحفظاتكم المبدئية لعل نتيجتها تكون سلاحاً في يدكم لمناهضة الاحتلال، لكن الاحتلال يواجه مقاومة ويفتح الباب لتسويغ أعمال إرهابية، ولذلك حدث ما نراه بأعيننا من انفلات أمني خاصة وقد تصرفت سلطات الاحتلال منذ اليوم الأول بغباء تُحسد عليه.
في الملاحظة الثالثة نتساءل عن الميزانية الهائلة للإنفاق الدعائي في الحملة الانتخابية بالذات في الدعاية عن طريق التليفزيون، وتمويل الحملات الانتخابية ليس مشكلة خاصة بالانتخابات العراقية وحدها بطبيعة الحال، وتأثيره الضار على نتائجها ليس خافياً على أحد، لكنه في ظل احتلال أجنبي وقوى سياسية عراقية لها ارتباطات عضوية بهذا الاحتلال وأخرى لها الارتباطات نفسها بغير الاحتلال يثير مخاوف أكثر من المعتاد بشأن مدى تأثير عامل المال على تشويه نتيجة الانتخابات وإخفاقها في أن تعكس تمثيلاً حقيقياً للقوى السياسية العراقية.
ترتبط الملاحظة الرابعة بالأثر المتوقع للانتخابات ونتائجها على استقرار العراق، والواقع أن آلية الانتخابات بوضعها الراهن لا تبدو مفضية بسرعة إلى استقرار حقيقي في العراق أولاً لمقاطعة فئات يُعتد بها من الشعب العراقي للانتخابات، وهي فئات لا يمكن بناء العراق الجديد بدونها، وثانياً لأن الخبرات المماثلة تفيد بتشرذم القوى السياسية في أعقاب سقوط النظم الشمولية، وهو احتمال غير مواتٍ للاستقرار في المدى القصير خاصة وأنني أتوقع - ولا بأس من المحاولة حتى وإن انطوت على خطأ- أن قائمة رئيس الوزراء العراقي سوف تحصل في حال إجراء انتخابات نزيهة على أصوات أقل مما يتصور الكثيرون، بل قد يكون إخفاقها ذريعاً إذا قورن بإمكاناتها، ولن يكون ثمة أمل في البدء في عملية بناء لعراق موحد ديمقراطي في المدى القصير إلا بفوز لائحة شيعية بأغلبية مريحة شريطة أن تتبنى نهجاً وطنياً مضاداً للاحتلال وتنجح في استقطاب سُنِّة العراق للتعاون في بناء عراق جديد متوازن ومستقل ضد رغبة هذا الاحتلال.
أما الملاحظة الخامسة فهي عن احتمالات تهميش سُنَّة العراق بعد الانتخابات الحالية والواقع أن الحديث عن تهميش سُنَّة العراق لا مبرر له لأن نتائج الانتخابات في حد ذاتها سيكون تأثيرها هامشياً على مستقبل العراق إذا أخفقت في إفراز مؤسسات عراقية جديدة تحظى بشرعية وطنية حقيقية وتتمكن من إعادة الاستقرار والشروع في مهمة إعادة البناء على أساس رفض الاحتلال، أما إذا نجحت الانتخابات في