لوقت قصير منصرم، كانت المرجعيات التعليمية العربية تتبارى في أن الواحدة منها أكثر سبقاً من الأخريات في تقريرها مجانية التعليم وإلزاميته ضمن نظامها التعليمي العمومي. واتسعت عملية التباري بينها بحيث أخذت تنسحب على عدد المعلمين وعدد التلاميذ وعدد الكتب المدرسية المطبوعة والتي تُطبع في بداية كل عام مدرسي، وكذلك عدد المدارس التي تفتتح هنا وهناك من البلد العربي المعني. وبالتوازي مع ذلك، كان الإعلام العربي - في معظم تجلياته القطرية- يتحدث بأصوات عالية عن (خطط) التنمية التعليمية، التي من شأنها أن تؤسس لحالة جديدة نوعياً في نُظم التعليم المطابقة. وإلى ذلك، كان القائمون على هذه النظم يعلنون (خطابهم التربوي)، الذي يريدون له - يداً بيد مع خطط التنمية المذكورة- أن يكون مدخلاً إلى "ثورة" أو "نهضة" علمية تربوية للبلد أو للوطن، من شأنها أن تدخله في القرن الجديد، القرن الحادي والعشرين. وبهذا، راح الأمر يبدو وكأن العالم العربي، كُلاً أو بمعظم أقطاره، أصبح على الطريق إلى عالم الحداثة، إن لم يكن أصبح جزءاً منه.
وجاء الحدث الكبير بصيغة سقوط العراق، ليفتح أسئلة كانت غائبة إلا قليلاً، ومنها: هل كانت النظم العربية محصّنة حقاً بوسائل التقدم الحداثي، وهل كان الاطمئنان لهذا التحصين غير زائف؟ إن "مجانية التعليم"، التي جرى الحديث عليها، ظهرت بمثابة جزء من استراتيجية عربية زائفة، أي مبنية على أسس واهية ومطروحة بكيفية أيديولوجية خاطئة. فلقد اتضح أن المجانية التعليمية، التي وجدت تطبيقها لفترات متعددة في بلدان عربية، إنما أتت ضمن ظروف مجتمعية معينة حوّلتها إلى شعار أيديولوجي لدى أصحابه. ذلك أن تلك المجانية راح التلاميذ العرب يدفعون ثمنها غالياً: إنها مجانية إلزامية روفِقت بتضاؤل مستوى العمل التعليمي والمعرفي، وبتدمير مستوى المعلم المادي والمعرفي، وبظهور أشكال جديدة للتعليم منها - بصورة خاصة- التعليم الخاص المنزلي، وبإقصاء التوجيه التربوي لصالح أقوال يرددها التلاميذ وتنتمي لـ"الشخصيات الكبرى المُلهمة"، وبظهور "التلميذ الآلي" في ترديده لتلك الأقوال وغيرها على نحو آلي- ميكانيكي، ولربط نجاح التلاميذ بإتقانهم لشرطين اثنين هما الولاء والوفاء لتلك الشخصيات الكبرى أولاً، والبقاء في دائرة فكر ببغاوي يرفض المواقف الانتقادية والعقلانية والاستقلال النسبي على صعيد التكوين الفكري والسياسي الشخصي.
وفي هذا وذاك، جرى عقد صلات زائفة بين ما يحدث على الصعيد المذكور من جهة وبين "خطط التنمية" التي أقلعت من مرابض البيروقراطية النهابة من جهة أخرى. فقيل: إن تلك الخطط تؤسس لـ"بلد أو وطن حرّ وشعب سعيد". وراح قادة "الإعلام الملتزم" ينظّرون لذلك على أساس أنه تكريس وتتويج للثورة أو النهضة العلمية والتربوية. أما إغراق البلد العربي المعني بآخر منتجات الحداثة الغربية فجرى تسويقه بمثابته التجسيد العملي للشعارات، التي أطلقت باتجاه "البلد الحر والشعب السعيد". وأخيراً، أتت ثمار ثورتي المعلومات والاتصالات لتسجل رقماً هائلاً في سلسلة شفط أموال الشعب لصالح نُخب مالية واقتصادية صاعدة بعملقة. واعتُبر ذلك مظهراً متألقاً من مظاهر المجتمع المعرفي، الذي يطالبنا بتأسيسه الأميركيون.
ويُذكر في هذا السياق أن إحدى الدول العربية سجلت، قبل سنوات، ظاهرة طريفة واستفزازية في الاستهلاك "الحداثي". فقد تبين أنها تستهلك من سيارات المرسيدس الألمانية ما يتجاوز استهلاك البلد المنتج لها. كما تبين أن نسبة من يعيش تحت حدّ الفقر في البلدان العربية، راحت تتسع على نحوٍ مؤرق، بحيث انعكس ذلك مأساوياً في حياة معلمي المدارس، وإلى حدّ ملحوظ في حياة أساتذة الجامعات. فهؤلاء وأولئك ودّعوا مدارسهم وجامعاتهم، ليتحولوا إلى باحثين عن أعمال جانبية أخرى بعد أن فقدوا الكفاية المادية والكرامة وإمكانية تحقيق مهماتهم التعليمية في مدارسهم.
وأخيراً، ما أهمية "مجانية" التعليم في بلدان عربية تتعاظم فيها نسبة تسرّب "انقطاع" التلاميذ عن مدارسهم، لأن قسماً متعاظماً منهم تحول إلى "أعمال" ممنوعة عليهم ومُذِلّة لهم وفي مقدمتها "التهريب البضاعي الاستهلاكي"، خوفاً منهم ومن أسرهم أن يجوعوا؟ أين ذلك من استراتيجية العرب التعليمية والاقتصادية وغيرهما؟.