ثمة مسبار صغير استقر على مسافة بعيدة في عالم غريب، وظل يعمل لفترة ساعتين في درجة حرارة 300 فهرنهايت تحت الصفر وهو يحاول جاهداً إرسال المعلومات إلى مركبته الأم قبل أن تختفي هذه المركبة الفضائية تحت خط الأفق تاركة هذا المستكشف الصغير وحده في هذا السطح الإسفنجي للقمر المتجمد الذي يبعد 750 مليون ميل من كوكب الأرض.
قد يتهمني البعض بأنني أتعامل مع الأشياء الجامدة وكأنها شخصيات بشرية ولكن مشهد مسبار هويجنز وهو مستقر في ذلك السهل المنبسط من الميثان والثلوج التي تغطيها طبقة من الهيدروكربون في تيتان، أكبر الأقمار حول كوكب زحل قد استحوذ على خيالي بشكل هائل وأكبر بكثير من دهشتي حيال ما يقوم به الملاحون في المحطة الفضائية الدولية.
إن أكثر ما أثار استغرابي هي تلك السماء البرتقالية اللون والتي أوضحت بجلاء أن عجائب الخيال العلمي التي طالما كنت أحلم بها في طفولتي قد كشف النقاب عنها أخيراً بواسطة مجسات فضائية غير مأهولة وبطريقة آسرة ومعلوماتية أكثر من كل ما من شأنه أن نحصل عليه في إنفاق جميع الأموال المرصودة لوكالة "ناسا" لإرسال المزيد من الملاحين الفضائيين في رحلات مستقبلية إلى القمر أو إلى المريخ في نهاية المطاف. إنني أعترف بأنني ما زلت مأسوراً بالصور التي أشاهدها على الإنترنت مثل التي تأتي من "مارتيان روفر" في كوكب أشبه ما يكون بمشهد غروب الشمس الذي يكتنفه الدخان والضباب. ولكن هذه العوالم التي شاهدتها بمزيد من التعجب في جهاز الكمبيوتر هي أقرب لعملية استكشاف إحدى الصحارى الأرضية، منها إلى تلك الأماكن والعوالم الغريبة التي طالما استحوذت على خيالي.
ولكن هنا، عندما نقرت على الموقع الإلكتروني لمسبار كاسيني- هويجنيز سرعان ما احتشدت شاشة الكمبيوتر بالبلورات السوداء للثلوج المغطاة بالطبقة الهيدروكربونية على سطح قمر تيتان وهي تتقافز في محيط برتقالي اللون وسرعان ما استدعت ذاكرتي قصص وحكايات الخيال العلمي إذ تمكنت من خلال مشاهدتي لهذا الموقع الإلكتروني من أن أحصل على أمثلة لتلك الأشياء التي اختزنت في ذاكرتي مثل القصة القصيرة "الحياة البطيئة" لمؤلفها مايكل سوانويك الحائزة على العديد من الجوائز وهي تحكي عن فريق المستكشفين الذين يبحثون عن مظاهر الحياة في قمر تيتان.
وحسبما ورد في ذلك الكتاب:"لطالما تحدث الناس كثيراً عن الأجواء المظلمة البرتقالية اللون التي تحيط بقمر تيتان، ولكن عندما تعتاد عيناك على المشهد يجوز لك أن تهتم بوضع الخوذة لأن الجبال الثلجية البيضاء ستلمع بشكل يدعو للانبهار بينما تحيط جداول الميثان بالتجاويف العجيبة التي تشبه خريطة الحروف التيتونية القديمة في أعالي الجبال. وهناك على طول خط وهمي يبدأ بالألوان البرتقالية والحمراء والصفراء"، إذن فإن المياه الثلجية أكثر قذارة والأسطح أكثر إظلاماً ولكن الحياة في قمر تيتان أبعد من أن تكون شبيهة بتلك التي جنح إليها خيال الكاتب سوانويك إلا أن الحقيقة قد تكون هي الأكثر غرابة ولكنها الأكثر قبولاً من الخيال.
لقد نما إلى علمي من المؤتمر الصحفي الذي عقده الفريق العلمي المختص بمسبار كاسيني - هويجنيز يوم الجمعة الماضي أن هنالك دلائل مؤكدة على وجود براكين نشطة في أسطح القمر تيتان اعتماداً علي وجود غاز الأرجون 40 في الجو. ولكن هذه البراكين لا تلفظ مقذوفات مصهورة، ولكنها مثل تلك التجارب التي قمنا بإعدادها في مختبرات الكيمياء أثناء مرحلة الصبا تعمل على تحرير كميات من المياه ومادة الأمونيا. وبالطبع فإن هنالك سحباً من الميثان وعواصف مطرية من الهيدروكربونات ولكن الحقيقة تكمن في أنني شعرت بأجواء رياح الميثان العاصفة وبشكل لم يكن بإمكاني أن أتلمسه عبر القراءة وحدها، ففي بادرة علمية ذكية عمد علماء المركبة هويجنز إلى وضع أجهزة لتكبير الصوت "مايكروفونات" في المسبار وعندما بدأ هذا المسبار في السقوط عبر السحب على بعد مئة ميل من السطح تمكنت من الاستماع ومشاهدة هذه الأسطح وهي تقترب في نفس الوقت الذي كانت فيه المركبة تبعث بمجموعات من الصور أثناء هبوطها. وبلا شك فإن الجلوس بمواجهة جهاز الكمبيوتر في منتصف الليل وأنت تستمع إلى أصوات الرياح وهدير العواصف في أحد أقمار كوكب زحل البعيد أمر يبعث على الإثارة والدهشة.
لقد اعتبرت نفسي محظوظاً لأنني أعيش في زمن اقترب فيه البشر أكثر من أي وقت مضى من الرؤية الحقيقية لهذا العالم العجيب الذي تحيط به طبقات الميثان والألوان الجديدة التي تكتسي بها السماء. إن هذا الأمر هو الذي جعلني أنجذب نحو العلم من البداية. فبينما تمتلك الآداب والفنون القدرة على الارتقاء بنا من حالة الملل والضجر التي نمر بها في حياتنا اليومية فإن العلوم في أفضل حالاتها لديها القدرة على الارتحال بنا إلى عوالم كاملة الاختلاف على نحو واقعي ومجازي على حد سواء وإلى أمكنة وعوالم قد لا يتمكن خيالنا من ارتيادها على الإطلاق. فخلال فترة ساعتين فقط تمكن مسبار صغير غير مأهول من تغيير تجربتي المباشرة مع كامل النظام ال