بعد الزلزال الذي ضرب ذمار اليمنية عام 1982 عُقِد في جامع الجردان بحي الخالدية في مدينة بريدة وسط السعودية درس ديني يقدمه ثلاثة من العلماء، يلقي أحدهم كلمة عامة قبل صلاة العشاء، وبعدها يُفسح المجال للأسئلة والفتاوى.
تحدث أحد المشايخ الثلاثة عن العقوبات التي يجازي بها الله عباده لقاء انحرافاتهم عن شريعته، وضرب الشيخ مثالاً بزلزال اليمن مستدلاً بما يقع - حسب رأيه- في تلك البلدة من عظائم الفجور. الجامع يقع في حي يقطنه غالبية من المقيمين اليمنيين يشاركهم بعض العمالة الآسيوية والعربية، والمسجد ليلتها كان مكتظاً بالمصلين، وعقب تعليق الشيخ هذا ارتفعت الأصوات في الصفوف الخلفية، وانسحب صفان منهم خارج المسجد، فلم تمض دقائق حتى اكتظ محيط الجامع بالعشرات منهم، بعضهم يحملون السكاكين وآخرون تأبطوا العصي، والغضب كالشرر في عيونهم. لقد ساءهم أن يكون الحديث عن أهلهم وإخوانهم المكلومين بتلك الطريقة المؤلمة.
طالب قائد الغاضبين بكسر جمجمة (الشيبة)، الذي أفلح بعضهم بتهريبه من محراب المسجد دون أن يناله أحد بسوء، بعد أن فشلت كل المحاولات في تهدئة الموقف، والتوضيح بأن الشيخ لم يقصد إهانة ولا اتهاماً لمجتمع بعينه وأن الغاية من حديثه كانت مجرد الاعتبار. كان الشيخ يتودد إلى الجمهور الحانق بأن يتعوذوا بالله من الشيطان، ولكن الشيطان لم يرتحل حتى أحاطت سيارات الأمن بالمكان واقتادت من لم يطلق سيقانه للريح إلى مركز الشرطة، وفي الصباح أطلق سراحهم.
بعدها بيومين كنت أحدث والدي عن القصة، فقال:"من الذي أوحى إليهم أن الزلزال كان غضباً من الله"! فحكمة الله أوسع من أن يحيط بها بشر.
في الأسابيع الماضية عاشت صحف مغربية وسعودية جدلاً حول الحكمة الغيبية من كارثة تسونامي، وجرى تراشق بين كتاب تبودلت فيه الاتهامات بين ضفتين: فريق يعتقد أن من صميم ثقافته ومن ضروريات دينه الإيمان بأن ما وقع هو عقاب إثر غضب من الله جراء انحراف عباده، وآخر يرى أن ذلك الادعاء مخالف لأخلاقيات الصحافة والإنسانية الرحيمة وقول على الله بغير علم.
بعض المؤمنين يروق لهم أن يخوضوا في الحكمة الإلهية ويحددوا الأسباب الغيبية للكوارث الكونية أو الأمراض والحوادث التي يكون من عداهم من المجتمعات والأشخاص ضحاياها، لكنهم لن يقبلوا أن يكونوا هم محلاً لتلك الاتهامات حينما يقعون تحت مقصلتها. لماذا السخط؟ فالذي منحك الحق هو الذي يمنحني الحق نفسه وقد دارت الدائرة عليك.
القصة السالفة هي مثال للمأزق الذي يعيشه بعض المؤمنين حينما يفسرون ما ينالهم من مصائب بالحسنى من الأسباب: كالابتلاء والامتحان من الله، ورفعة الدرجات، وتطهيرهم عن الذنوب كما تحاتُّ ورق الشجرة، في الوقت نفسه الذي يقع خيارهم على السيئ من الأسباب لغيرهم من المؤمنين: مسيحييهم أو يهودهم أو حتى مسلميهم، ممن لا يتطابقون مع مذهبهم أو طائفتهم.
وحول الحديث عن العقوبات، فآيات القرآن الكريم كانت تتناول أنواعاً: أحداثاً معينة كونية، أو تعذيباً بأيدي البشر، وقعت أثناء تنزل القرآن وجاء النص عليها معللة بأسبابها، كهزيمة أحد وحنين، ووقائع كونية جاءت في مقام القصص خصَّتْ أمماً وأقواماً، كقوم صالح وهود، وثالثة أخرى لم تحدد الآيات أهلها الأقدمين المعاقبين بها.
ولكن الذي كشف عن تلك الغيوب وتحدث عن الحكمة وعين الأسباب هو الذي جاء بالقرآن نفسه، فما الذي يمنح البعض من الشيوخ الحق بالخوض في تحديد الحكمة وهم ليسوا أنبياء ولا أرباباً؟.
حسب ما ذكره بعض علماء الدين المسلمين فبعثة الرسول محمد كانت أماناً لأمته - أمة الدعوة فضلاً عن أمة الإجابة وهم المسلمون- من العقوبات العامة والاستئصال حيث أرجئت تلك العقوبات إلى يوم القيامة، لهذا لا حاجة لإيراد تلك الآيات التي تتحدث عن الأمم السالفة التي عوقبت على عصيانها الرسل، حين الحديث عن نوازل معاصرة أو سالفة، وبقي لدينا النصوص العامة التي أكدت أثر الانحراف عن التعاليم والوصايا الإلهية في العقوبات الكونية وفي سورة الروم (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا) وهو معتقد محل إجماع بين أصحاب الديانات التوحيدية الثلاث، وبعض أهل النحل الأخرى، كل حسب اعتقاده. هذا من منظور ديني بحت.
ليس من عاقل يقبل أن تكون استباحة المدينة ثلاثة أيام في عهد بني أمية، وضرب الدرعية في أوائل القرن الثامن عشر والقتل المأساوي للأمير عبدالله بن سعود في الأستانة، وفرار الملا عمر من أمام الجيوش الفاتحة الصليبية، هي أيام يداولها الله بين عباده، وأن موت بعض الصالحين والأتقياء وهم قد شارفوا الجنون وأوشكوا على الخبل، أو هرموا حتى ارتدوا لمدارج حياتهم الأولى كان ابتلاء وامتحاناً، في الوقت الذي يكون فيه زلزال "بام" الإيراني وكارثة تسونامي علقتين ساخنتين أراد الله أن يؤدب بهما الشارد من خلقه عن صراطه، نفق إثرها الأطفال الرضع والعجائز الركع.
سائلوا أنفسكم: لماذا يعاقب الله من يجاهرون باللذائذ ويعلنون الإلحاد، ويترك شيخا