شهد العراق أمس تنظيم أول انتخابات ديمقراطية منذ عقود شاركت فيها العديد من اللوائح والأحزاب من مختلف ألوان الطيف السياسي العراقي وسجلت مقاطعة من بعض الاتجاهات لأسباب سياسية وتنظيمية عديدة، وحتى قبل تنظيم هذه الانتخابات، اعتبر مراقبون غربيون عديدون، أنها تستجيب، على رغم كل شيء، للحدود المقبولة من شروط توافر تنظيم الانتخاب الديمقراطي المتعارف عليها، حتى لو كانت جرت في ظروف أمنية استثنائية جداً، وفي ظل وجود قوات احتلال أميركية وبريطانية كثيفة، وضمن مناخ لا يخلو من عدم الاتفاق العام على حيثياتها. وقبل ذلك شهدت الأراضي الفلسطينية تنظيم انتخابات رئاسية في التاسع من يناير الجاري جاءت بمحمود عباس إلى السلطة في ظروف وملابسات وصفها المراقبون والجهات الرسمية الغربية بأنها تستوفي شروط الديمقراطية أيضاً وتستجيب لكل متطلباتها، على رغم صعوبة الوضع الأمني في الأراضي المحتلة، ومع وجود قوات الاحتلال الإسرائيلي الكثيف، وتضييقها على الفلسطينيين، والعراقيل الكثيرة التي وضعتها للحيلولة دون توجه الناخبين إلى صناديق الاقتراع.
والسؤال الآن هو: لماذا لا تجري الانتخابات الديمقراطية المشهود لها بالنزاهة إلا في دول عربية تحت نير الاحتلال؟ وهو سؤال يخفي وراءه أسئلة أخرى كثيرة، بعضها موجه إلى آلية التقييم ومعاييره لدى المنظمات الغربية والجهات المعنية بتقييم الأداء الديمقراطي بصفة عامة، ليس للتشكيك في دوافع تقييمها وانتقائية معاييرها، لا سمح الله، وإنما لأن هذا التقييم يبدو أحياناً غير متسق مع المنطق الديمقراطي الذي تصدر تلك المنظمات والجهات عنه، وتدفع باتجاهه، دون رحمة! وكمثال، ألمْ تـُشِدْ المنظمات المعنية بتقييم الأداء الديمقراطي بالانتخابات الفلسطينية التي أدت إلى انتخاب الرئيس الراحل ياسر عرفات منتصف التسعينيات، ووصفتها بالنزيهة، واعتبرت ياسر عرفات قائداً شرعياً منتخباً من قبل شعبه؟ ما محصلة كل تلك الإشادات حين قوطع أبو عمار وحوصر ونـُفي عملياً من المشهد السياسي الفلسطيني، يوم قررت الإدارة الأميركية، بإيعاز من شارون، أنه أصبح شخصاً "غير ذي صلة"، أو "منتهي الصلاحية"؟.
على أن ثمة أسئلة أخرى، ألحُّ وأمرُّ بكثير موجهة إلى الداخل العربي: هل يُحتمل أن تنتقل، يوماً ما، عدوى الانتخابات الديمقراطية العراقية والفلسطينية، إلى بقية الدول العربية؟ بمعنى: هل سنشهد حلاً لعقدة الاستعصاء الديمقراطي في المنطقة العربية، التي يعتبرها كثيرون حالة استثناء أبت إلا أن تفوّت على نفسها فرصة الاستفادة من موجة المد الديمقراطي في التسعينيات والتي عمت أوروبا الشرقية، وأميركا اللاتينية، وحتى أفريقيا جنوب الصحراء؟ وهل ستكون الانتخابات العراقية والفلسطينية بذلك هي المدخل إلى ظهور "شرق أوسط كبير"، (جنة بوش) ترفل في ثياب الديمقراطية والتعددية وتكرس المشاركة الشعبية، وتجسد بالتالي بقية أجندة المشروع الأميركي في المنطقة، خاصة أن الولاية الثانية للرئيس بوش، تجعل هامش المناورة أمامه للتحرك في المنطقة أوسع، بعد أن تخلص من هواجس عدم الانتخاب، واختصر خلال ولايته الأولى الطريق، ليصبح عملياً، على أعتاب أكثر من عاصمة عربية؟.
سأترك كل هذه الاحتمالات هنا في حدود السؤال فقط، لقناعة راسخة في نفسي بأن المنطقة مقبلة على موجة مد ديمقراطية كبيرة، بغض النظر عن تقييمنا لمصداقية أو عدم مصداقية أحكام الآخرين علينا، ونواياهم فيما يريدون لنا أن نكون. وربما تصبح الانتخابات الديمقراطية التي شهدها العراق أمس مجرد مؤشر على أجندة تحولات سياسية متواترة في أكثر من قطر عربي. وعندما تنتقل عدوى الديمقراطية في المنطقة يمكننا حقاً أن نتحدث عن شرق أوسط جديد، يكون طرفاً فاعلاً وإيجابياً في عالم لم يعد في مقدور منطقتنا أن تتقوقع على نفسها عنه، ولا أن تدفن رأسها عنه في الرمال.