ذكرنا في المقال السابق بعض الجوانب الإنسانية في العقيدة اليهودية وهي موجودة بالفعل ولكن لابد من الاعتراف بأنها قليلة. ويوجد على العكس من هذا جوانب عدوانية كثيرة. خذ على سبيل المثال مفهوماً أساسياً في اليهودية وهو تصور الإله. في بعض أجزاء العهد القديم تصور للإله يقترب كثيرا من التصور الإسلامي. فهو إله واحد لا يتجسد ولا تدركه الأبصار، خالق الطبيعة المادية والتاريخ الإنساني، ولكنه يتجاوزهما. وقد وصل التيار التوحيدي إلى قمته في كتب الأنبياء (خاصة كتاب أشعياء) الذين طهروا التصور اليهودي للإله من كل الشوائب الوثنية، فصار أكثر إنسانية وشمولا وسموا، فهو إله عادل لا يفرق بين الشعوب ولا يتبنى مقاييس أخلاقية، بل يحكم على اليهود وعلى كل الشعوب بمقياس واحد. لكن إلى جانب هذا يوجد تصور آخر للإله داخل الإطار الحلولي ووحدة الوجود أبعد ما يكون عن التوحيد. والحلولية ووحدة الوجود تعنيان أن الإله الخالق يحل في مخلوقاته ويتوحد بها، بحيث يصبح العالم مكونا من جوهر واحد. وفي حالة وحدة الوجود اليهودية يحل الإله في الشعب اليهودي فيتأله الشعب ويصبح في منزلة الإله كما يحل في فلسطين (أرتس إسرائيل في المصطلح الديني اليهودي) فتصبح أرضا مقدسة. والإله في هذا الإطار الحلولي يتصف بصفات البشر فهو يأكل ويشرب ويتعب ويستريح ويضحك ويبكي ويحب ويبغض، بل يحس بالندم ووخز الضمير (خروج 32 /10 – 14). وإذا كان من أهم صفات الإله في الإطار التوحيدي أنه يعرف كل شيء ففي الإطار الحلولي الإله نجده لا يعرف كل شيء، ولذا يطلب من اليهود أن يرشدوه بأن يصبغوا أبواب بيوتهم بالدم حتى لا يهلكهم مع أعدائهم من المصريين عن طريق الخطأ (خروج 12 / 13 – 14).
وهو إله يتجسد في أشكال مادية محسوسة فهو يسكن في وسط اليهود ويحملونه في خيمة العهد (خروج 25/8)، كما يسير أمام اليهود على شكل عمود دخان في النهار كي يهديهم الطريق، أما في الليل فكان يتحول إلى عمود نار كي يضيء لهم. وهو إله الحروب يعلم يدي داود القتال. وهو إله قاس يأمر شعبه المختار بقتل جميع الذكور في المدن البعيدة عن أرض الميعاد. أما سكان هذه الأرض نفسها فمصيرهم الإبادة ذكورا كانوا أم إناثا أم أطفالا. ومقاييس هذا الإله تختلف باختلاف الزمان والمكان ولذا فهي تتغير بتغير الاعتبارات العملية، ولذا يأمر اليهود بالسرقة ويطلب من كل امرأة يهودية في مصر أن تطلب من جارتها "أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثيابا حتى يسلبوا المصريين (خروج 3 / 22). وهو في نهاية الأمر يعد إلهاً قوميا خاصا مقصورا على الشعب اليهودي، بينما نجد أن للشعوب الأخرى آلهتها (خروج 6 / 7).
والحلولية تيار مهم في العهد القديم، ولكنها تضخمت واتسعت في التلمود. فالإله في التلمود، متعصب بشكل كامل لشعبه المختار، ولذا فهو يعبر عن ندمه على تركه اليهود في حالة تعاسة وشقاء حتى أنه يلطم ويبكي. ومنذ أن أمر بهدم الهيكل وهو في حالة حزن وندم، توقف عن اللعب مع التنين الذي كان يسليه، وأصبح يمضي وقتا طويلا مع الليل يزأر كالأسد.
وورد في التلمود أن خلافا وقع بين الإله وعلماء اليهود حول أمر ما. وبعد أن طال الجدل، تقرر إحالة الأمر موضع الخلاف إلى أحد الحاخامات الذي حكم بخطأ الإله الذي اضطر إلى الاعتراف بخطئه. وهكذا اختل التوازن الحلولي، كما هو الحال دائما، لصالح المخلوقات من الحاخامات على حساب الإله.
ويظهر ارتباط الانعزالية بالحلولية في فكرة الاختيار، فقد جاء في التلمود أن الإله اختار اليهود لأنهم اختاروه، وهي عبارة تفترض المساواة بين الإله والشعب، (وكان يرددها بن جوريون برضا شديد، وهي تشكل أساس فلسفة بوبر الحوارية، ونقطة انطلاق لكثير من النزعات الحلولية المعاصرة في اليهودية ولصهيونية جوش ايمونيم الحلولية).
وتزداد الحلولية تطرفا في تراث القبالة (التراث الصوفي الحلولى اليهودي) فقد جاء في إحدى فقرات سفر أشعياء
(23 /12) "أنتم شهودي، يقول الرب، وأنا الله" وهي فقرة تؤكد وحدانية الإله. تفسر القبالاه هذه العبارة كما يلي:"حينما تكونون شهودي أكون أنا الإله، وحينما لا تكونون شهودي فكأننى لست الإله"، فكأن وجود الإله من وجود الشعب وليس العكس. بل إن كمال الإله يتوقف على الشعب. وقد استمر هذا التيار الحلولي حتى العصر الحديث فنجد حاخاما مثل ايوجين بوروفيتز يتحدث عن حرب 1967 أنها لم تكن تهدد دولة إسرائيل فحسب، وإنما تهدد الإله نفسه، فكأن الإله قد تجسد في دولة إسرائيل، فمن يصيب الدولة الصهيونية بأذى فكأنه يصيب الإله نفسه بأذى.
وفي كل المنظومات الحلولية كما أسلفت ثمة ثالوث أساسي هو الإله والشعب والأرض، فيحل الإله في الشعب فيصبح شعبا مقدسا وأزليا (وهذه من صفات الإله) ويحل في الأرض فتصبح أرضا مقدسة.
ولنبدأ بمفهوم الشعب. يشار إلى اليهود في العهد القديم بأنهم "الشعب المقدس" و"الشعب الأزلي". وقد جاء في سفر التثينة (20/ 24،26) "أنا الرب إلهكم الذي ميزكم من الشعوب... " وكما جاء في نفس السفر (14/2) "وقد اختارك الرب ل