بمجرد أن اجتازت المركبة الفضائية "هويجنز" السحب المحيطة بالقمر تيتان يوم الجمعة الماضي سرعان ما انكشف النقاب لربما عن أكثر الأشياء غموضاً وغرابة في كامل النظام الشمسي. فلفترة تزيد على 20 عاماً ظل العلماء يمعنون النظر ويتفحصون الصور الخاصة بالقمر تيتان دون أن يجدوا ما يشفي غليلهم. والآن فقد ظهر شيء جديد لا يشبه كل ما عرفه علم الفلك من قبل وهو عبارة عن قمر بحجم الكوكب تحيط به أجواء كثيفة وغنية بالكيماويات التي شكلت ذات مرة المستحلب الطيني الذي يحيط بالكوكب الأرضي. ولكن الضباب والدخان البرتقالي اللون الذي يحيط بالقمر ما زال يجعل من المستحيل رؤية ما يجري على السطح.
على أن الصور التي بعثت بها المركبة "هويجنز" بدأت ترسم صورة اندمج فيها الخيال مع الواقع. ففي هذا العالم نصف المضاء الذي يبعد 886 مليون ميل من الشمس في درجة حرارة تبلغ 290 فهرنهايت تحت الصفر لم تدع المركبة "هويجنز" فرصة للتشكك في أن القمر تيتان كان -وربما لا يزال- يحتشد بأنهار وبحيرات من هذه المادة العضوية السائلة. لقد كانت الصور واضحة بشكل أثار دهشة العلماء الذين رأوا أدلة دامغة على وجود مجارٍ للأنهار وقنوات تصريف تدفقت فيها هذه السوائل وهي تعيد تشكيل الأسطح تماماً كما فعلت المياه بتضاريس كوكب الأرض. إن القمر تيتان يتسم ببرودة هائلة وبشكل لا يجعله صالحاً لأي من أشكال الحياة، ولكن في نظام شمسي تساقطت وخمدت فيه معظم المكونات الصلبة منذ زمن طويل فإن القمر تيتان يمنحنا مشهداً لعالم ربما لا زال ينبض بالحياة على نفس المنوال الذي كانت عليه الأرض ذات مرة ولكن بطريقة ما زال من غير الممكن فهمها أو إدراكها.
يقول بروس بيتز أحد علماء جمعية "بلانيتاري" في باسادينيا بولاية كاليفورنيا: من الصعب أن تتنبأ باكتشاف المزيد ولكن ما تحقق من إنجاز يعود إلى أنه لا أحد كان يتوقع أن هذه الأشكال السطحية موجودة بهذه الطريقة التي تدعو للدهشة والتعجب.
وفي الحقيقة فإنه لا أحد كان يتوقع أن تنجح المركبة في مهمتها، فلم تكن هناك برامج تخطط لمحاولة الهبوط على كوكب أو قمر أبعد من المريخ ولكن الأمر كان متروكاً لوكالة الفضاء الأوروبية لتفعل ذلك. وبينما كان المسبار "كاسيني" الخاص بوكالة ناسا الفضائية يحمل المركبة هويجنز إلى كوكب زحل كانت وكالة الفضاء الأوروبية تدير عملية الهبوط على السطح التي تستغرق ساعتين ونصف، وهو زمن قليل جداً بالنسبة لمنظمة فقدت مؤخراً إحدى مركباتها في المريخ. ولكنهم نجحوا في النهاية بعد أن واجهوا بعض المشاكل الفنية، حيث استمرت المركبة هويجنز تبعث بالبيانات لأكثر من ساعة بعد هبوطها. إذ يقول دكتور بيتز: إنها إحدى أكثر المهمات صعوبة التي يمكن أن يتخيلها الفرد، ولقد أوضحت بجلاء أن هناك لاعباً رئيسياً آخر.
وبحلول مساء الجمعة كانت هذه الجهود قد تبلورت وبدأت تكشف النقاب عن أكبر لوحة لمنطقة لم يتم اكتشافها حيث الأجواء أكثر كثافة من الأرض، ولكن في مستوى من الجاذبية يماثل تلك الموجودة في كوكب الأرض تمكنت المركبة "هويجنز" من الهبوط بسلام في أعماق الغطاء البرتقالي لقمر تيتان. وعلى ارتفاع 10 أميال من السطح تمكنت المركبة هويجنز من تصوير المناطق المضيئة التي تعلوها بعض الخيوط السوداء التي تنحدر نحو السهول المظلمة غير واضحة المعالم مما يؤكد بشدة وجود قنوات لتصريف السوائل المتدفقة نحو المكامن. وعلى ارتفاع خمسة أميال تمكنت من التقاط صور للأراضي العالية المضيئة التي تنتهي في انحدار شديد باتجاه المناطق المظلمة مما يدل على وجود خط ساحلي بجواره عقود من الجزر. وعندما لامست السطح في نهاية الأمر كانت الصخور الكروية الشكل تحيط بالمركبة هويجنز وتأكد مجدداً أن هذه الصخور قد تم صقلها بواسطة السوائل، حيث يقول جوناثان ليوناين أحد العلماء في فريق مهمة المسبار كاسيني والذي كان يعمل في قسم السيطرة الخاص بوكالة الفضاء الأوروبية في مدينة درامستاد في ألمانيا "لقد تمكنا من الحصول على العديد من الدلائل والمؤشرات الخاصة بالدور الذي تلعبه السوائل".
ولكن ما بعد هذه المرحلة فقد جاءت النتائج أكثر غموضاً، حيث إن الصور التالية التي بعثت بها المركبة لم تبد كتلك التي تثير خيال العلماء وإنما عبارة عن مشاهد أكثر غرابة ظلت تزيد من حيرة العلماء صورة بعد أخرى. ولربما أن هذا السائل كان قد تدفق وتساقط مثل المطر ولكن العديد من العلماء الذين تفحصوا هذه الصور أخذوا يميلون إلى فكرة أن هذه السوائل قد انحدرت من الجبال والمناطق العالية المحيطة. أما بالنسبة للسؤال الخاص بالمكان الذي يتواجد فيه هذا السائل الآن فقد افترض بعض العلماء أنه ربما لا يزال يتواجد هناك في المنطقة المظلمة. ولكن بعض العلماء الآخرين طفقوا يتحدثون عن إمكانية وجود بحار للترسبات الطينية العضوية أو عن سهول مشبعة ومغمورة بمكونات هذا السائل. ووفقاً لما جرى عبر العمليات الحسابية التي تم تنفيذها داخل المركبة هويجنز فإن المسبار قد غاص إلى مسافة 6 بوصات داخل التربة عندم