وفقاً لتيموثي غارتون آش مؤلف كتاب "العالم الحر" الذي نعرض له اليوم فإن الأحداث الجسام التي وقعت على مر التاريخ المعاصر مثل سقوط فرنسا في الحرب العالمية الثانية وانهيار حائط برلين قد تمخضت عن تغيرات سيزمائية هائلة في الجغرافيا السياسية. وأدت إلى تفكك وزوال بعض التحالفات وإعادة توزيع السلطة والنفوذ. ثم جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما تلاها من شن الحرب على العراق مما أفضى إلى الأزمة الحالية المستحكمة في الغرب. فقد ارتأت فرنسا وألمانيا اتخاذ موقف معارض للحرب الأميركية وهو الأمر الذي بات يشكل علامة واضحة للشقاق الذي لحق بهؤلاء الحلفاء المتضامنين منذ زمن طويل، وبدأ يثير العديد من التساؤلات بشأن الهوية الأوروبية والدور البريطاني في هذا الصراع والاتجاه الذي تسير فيه السياسة الخارجية الأميركية. أما الأهم من ذلك فهو المدى الذي يمكن أن تنتشر فيه قيم الحرية والديمقراطية في أوساط ملايين الفقراء في العالم النامي.
إن محاولة فرنسا لأن تصبح الصوت الأعلى في الاتحاد الأوروبي الذي يشكل تحدياً للرغبة الأميركية إنما تعتبر بمثابة مغادرة لهيكل السلطة العالمية الذي تشكل منذ عقود طويلة. وضمن استعراض تفصيلي لهذه المسيرة التي تحتشد بالأحداث والتفاصيل يمضي آش الخبير في العلاقات الأميركية- الأوروبية في وضع هذه الأزمة ضمن إطارها التاريخي الذي يعود إلى فترة الحرب العالمية الثانية. ويؤكد الكاتب أن مستقبل الغرب بات يعتمد على الخيار الذي سيفضله الاتحاد الأوروبي بين الديجولية (أوروبا مقابل أميركا) أو اتباع نهج تشرشل الذي يعتمد "الأطلسية" أي أوروبا كشريك للولايات المتحدة الأميركية على أن تصبح إنجلترا هي الجسر الذي يربط بين الجانبين. وفي نفس الوقت يتعين على أميركا القوة العظمى الوحيدة أن تقرر ما إذا كانت ستستمر في انتهاج مسار أحادي في سياستها الخارجية يعتمد على المصلحة الذاتية المقترنة بإدمان فكرة نشر الديمقراطية أو أن تنتهج نوعاً من التبادل المشترك عبر الأطلسي الموجود أصلاً في عالم الأعمال التجارية.
وبقدر فائق من الحكمة يحذر الكاتب من المبالغة في تبسيط الأمور والاعتداد بفكرة أن هنالك أميركا واحدة وأوروبا واحدة. إذ كتب يقول:"لا توجد هنالك مجموعتان منفصلتان من القيم والأفكار إحداهما أوروبية والأخرى أميركية ولكن هناك مجموعات عديدة متقاطعة لهذه القيم". لذا فهو يطالب ويشجع على التعاون بين هاتين القوتين العظميين. وما لم يتم ذلك، يقول آش، فإن الغرب لن يصبح بإمكانه استرداد موقعه المتراجع ولا التمكن من نشر فضائل الديمقراطية والحرية في العالم النامي. ومضى يشير إلى الورطة التي علقت فيها بريطانيا العظمى بين أميركا وبين حلفائها في القارة بسبب العراق. وبصفته أحد كبار الباحثين البريطانيين وقد تعود أن يتجول في أنحاء القارة الأوروبية طفق يذكرنا بالعديد من الأفكار البالية التي انتشرت مؤخراً والتي تطالب بوجود أوروبا موحدة لكي تصبح قوة عظمى بديلة ملاحظاً ذلك التفاوت التنموي الكبير في داخل الاتحاد الأوروبي. وعلى كل فهو يؤكد أن المجتمع الأوروبي ما زال لديه دور حيوي لكي يلعبه في مسألة انتشار الديمقراطية في أنحاء العالم الأخرى. وهو ما زال يتطلع إلى ذلك اليوم الذي تعامل فيه أميركا الأوروبيين كـ"شركاء كاملين على قاعدة المصالح المشتركة". وبالنسبة إلى آش فإن هذه المصالح في معظمها اقتصادية.
وعلى خلفية عمله في مؤسسات الصحافة الأوروبية والأميركية لسنوات عديدة فإن غارتون آش ظل يبحث في هذا الكتاب عن السبل التي يمكن من خلالها تجنب أن تتحول هذه الخلافات إلى نوع من المشاحنات والتصادم. حيث يؤكد على أن المصالح الأوروبية والأميركية متطابقة وتقف على منصة واحدة هي "الحرية" وعندما يتمتع البعض بهذه الحرية فإن من المؤكد أن الفائدة ستعم الآخرين. ومع الحرية تأتي المسؤولية، وجزء من هذه المسؤولية أن ندرك أن المواطنين في باقي أنحاء العالم لا يتمتعون بهذه الحرية. ومن أجل أن ننتج هذا العالم الحر لابد لنا أن نتوافق ونقدم بعض التنازلات. وفيما يتعلق بهذه التنازلات يؤكد الكاتب أن أوروبا يتعين عليها أن تمضي في طريق طويل حتى تتخلص من مصالحها الذاتية والغيرة التي تكنها لأميركا. أما أميركا فهي كيان لديه قوة عسكرية هائلة جعلتها تشعر بوضوح أن بإمكانها استخدام هذه القوة بكل حصانة ودونما خوف من عقوبة أو عاقبة. وعلى الدول الأوروبية حتى في حالة كونها اتحاداً ألا تلجأ إلى انتهاج سياسات تثير غضب تلك القوة. وعلى الولايات المتحدة من جانبها أن تدرك أن العالم مكان يحتشد بالتنوع ويتعين عليها احترام مشاعر ومصالح الآخرين. ويمضي الكاتب مشيراً إلى أن الاتحاد الأوروبي خلال وقت قصير سيتألف من 40 دولة جميعها تتمتع بقدر كبير من الحرية وحماية البيئة وحقوق الإنسان. إن توسعة وتمدد هذه المعايير كما يشير الكاتب تعتبر إطاراً إيجابياً ومنصة للانطلاق نحو المزيد من السياسات التي تحقق المكاسب للجانبين.
يبقى من الواضح أن آراء آش ت