إذا كان للقبلية مضمونها السياسي منذ القدم، فإن تسييسها بكثافة لتتشابك مع استراتيجيات الحزب أو التنظيم السياسي، هي حالة تكاد تكون يمنية بامتياز. على هذه الخلفية يحلل الدكتور محمد محسن الظاهري في كتابه "المجتمع والدولة في اليمن" (550 صفحة) علاقة القبيلة بالتعددية السياسية والحزبية، فيوصف ملامح البناء الاجتماعي اليمني وسماته الأساسية؛ ويرى أن القبيلة لازالت المكون الأساسي للمجتمع اليمني، بل إن القبائل تنتظم أزيد من 85% من العدد الإجمالي لسكان اليمن. ورغم أن القبائل اليمنية متماثلة في أهدافها ووظائفها وتتسم بتجانس إثني واجتماعي لم يعرف تقسيماً طبقياً واضحاً، فإنه كثيراً ما تم تسييس القبليات والعصبيات في تحالفات أو انقسامات واستقطابات ثنائية متصارعة في أغلب الأحيان.
لكن التوازن القبلي غالبا ما أدى إلى الحد من احتكار السلطة السياسية ومنع استخدامها بشكل تعسفي من قبل البعض إزاء البعض الآخر، وإن كان المؤلف يلاحظ أن معظم أنظمة الحكم المتعاقبة على اليمن سعت إلى الحد من المنافع الإيجابية لـ"الحالة التوازنية" وعملت على توظيفها بشكل يخدمها ويؤجج الصراع القبلي الداخلي.
وحاول المؤلف استقراء التاريخ الاجتماعي والسياسي اليمني بهدف التعرف على الخصوصية التاريخية والسياسية لمفهوم الدولة اليمنية، فخلص إلى أن خصوصيتها تتمثل في نشأتها وطبيعة نظامها السياسي؛ فهي ذات نشأة قبلية وتكوين تحكيمي، ومن ثم يتسم نظامها السياسي بثنائية تتجلى في وجود نظامين متفاعلين ومتمايزين في آن معاً، هما النظام السياسي القبلي والنظام السياسي "الرسمي- التحكيمي"؛ أولهما يرتكز على العصبية القبلية وخصوصية القبلية اليمنية التي هي سياسية بالتعريف، وثانيهما يستند إلى صراع العصبيات القبلية والقوى الاجتماعية الأخرى. فما هو الدور السياسي للقبيلة في اليمن؟
يقول المؤلف عن القبيلة اليمنية إنها تشكل مفهوماً سياسياً يجمع بعض سمات الحزب السياسي وجماعة المصلحة أو الضغط السياسي، ولذلك فهي تسعى إلى السلطة وتشارك في صنع القرار السياسي أو تحاول التأثير فيه بما يحقق مصالحها، ذلك لأنها قبيلة سياسية الجذور إذ كانت في حقب سابقة من التاريخ تتحول إلى مملكة أو دولة قوية متغلبة، وما زال زعماؤها حتى يومنا هذا يمارسون مهام سياسية عديدة سواء في الحكومة أو البرلمان والمجالس المحلية.
ومن عوامل قوة النظام السياسي القبلي في اليمن، كما يشرحها الكتاب، استمرار الثقافة القبلية، وطبيعة التضاريس الجبلية الوعرة، وآليات التضامن الجماعي وتجميع المصالح، وسهولة الاتصال بين شيخ القبيلة وبقية أعضائها، والوسائل القبلية في مواجهة العنف المنظم، وقدرة النظام القبلي على التكيف مع المتغيرات الحادثة.
ويتطرق المؤلف إلى طبيعة العلاقة بين النظامين "القبلي" و"الرسمي-التحكيمي" في اليمن، قائلا انهما يتفاعلان في إطار أوسع هو الإطار المجتمعي اليمني، ويقدم أمثلة على التفاعل الصراعي بين النظامين، ثم أمثلة أخرى على النمط التحالفي بينهما أيضا، وأخيرا يتعرض إلى النمط التعايشي كحالة وسطى بين الصراع والتحالف تعد الأكثر وضوحا واستمرارا في الواقع السياسي اليمني، سواء في مرحلة ما قبل إعلان التعددية السياسية أو ما بعده.
وعن العلاقة بين القبلية والحزبية، يقول عنها المؤلف إنها تتسم بأبعاد إيجابية وأخرى سلبية؛ فكان من ثمار قيام دولة الوحدة اليمنية وإعلان التوجه نحو التعددية السياسية والحزبية، حدوث تفاعل إيجابي بين القبيلة والحزب في اليمن، ومن ثم يرصد عبر صفحات عديدة من الكتاب آثار ذلك التفاعل، مشيراً إلى انخراط قبائل يمنية في عضوية بعض الأحزاب والتنظيمات السياسية، كما نتج عن التلاقي بين القبيلة والحزب تمتعهما بفاعلية سياسية واضحة. أما نمط التفاعلات السلبية فيشير إليه من خلال الاتهامات المتبادلة بين القبائل والأحزاب حيث يعتبر بعض الزعماء القبليين أن الأحزاب "أفسدت القبائل"، فيما يعتبر بعض الحزبيين أن "المشكلة القبلية... طور اجتماعي متخلف" وأنه "لابد أن نهيل التراب على الموروث القبلي".
وثمة مواقف متبادلة بين القبيلة والحزب، فمن جهة أولى تتعامل القبيلة مع التعددية الحزبية وتشارك سياسياً من خلالها، ومن جهة ثانية ترفضها كممارسة. وفي المقابل نجد لدى بعض الأحزاب موقفاً نظرياً وأيديولوجياً رافضاً للقبلية مفهوماً ووجوداً، كما نجد بعضها الآخر يرفض بعض القيم القبلية لكنه يتعامل مع القبيلة كواقع على مستوى الممارسة السياسية.
ويطرح المؤلف في هذا الصدد تساؤلا مهما: هل يمكن اعتبار المشاركة السياسية للقبيلة اليمنية شاهداً على تحديث اجتماعي وسياسي في المجتمع اليمني؟ ويرى أن قيم المجتمع القبلي التقليدي اليمني لم تذب ولم تتحطم رغم المؤشرات والشواهد "الشكلية" لظاهرة التعبئة الاجتماعية، حيث يشير مصطلح "داعي" القبيلة إلى استمرار ثقافة الوعي العصبي والقبلي والى انتشار روح التضامن بين أفراد القبيلة الذين يلبون "داعيها". كما يشير المؤلف في ال