على الرغم من الوضع الأمني المتدهور الذي أدى إلى مصرع العشرات في العراق خلال الأيام القليلة الماضية فقط، فإن الكثيرين من العراقيين يحسون بأنه من حقهم أن يشعروا بالفخر وهم يشرعون في اتخاذ الخطوة الأولى نحو الديمقراطية بعد عدة أيام.
والانتخابات في حد ذاتها تمثل علامة بارزة، ولكنها ليست المدخل للشرعية الديمقراطية في العراق. فاستمرار نجاح الديمقراطية لا يمكن ضمانه إلا من خلال عاملين أكثر أهمية واستمرارية من الانتخابات: الأول، تعهد النخبة في الأمة الديمقراطية بألا يقوم الفائزون في الانتخابات باستخدام السلطة في الانتقام من الخاسرين فيها. والثاني، وجود دليل راسخ على أن الشعب قادر على ممارسة حقه في إخراج رؤسائه من السلطة بنفس الطريقة التي سمح لهم بالدخول إليها.
وتاريخ القرن العشرين يحفل بالانتخابات التي لم تؤد لا إلى الديمقراطية ولا إلى حكم القانون.. وإنما استخدمت صناديق الاقتراع فيها كأداة لتزوير إرادة الشعوب، وتعزيز سيطرة الحكام على مقاليد السلطة.
بالنسبة للعراقيين تعتبر عملية التصويت حدثاً كبيراً في حد ذاتها، وخصوصاً إذا ما عرفنا أنهم لم يمارسوا انتخابات حقيقية منذ عام 1953. وإذا ما تم إجراء تلك الانتخابات في معظم أنحاء البلاد، ولم يتم تزويرها، وفازت فيها الأغلبية فعلا، فإنه سيكون بإمكان معظم العراقيين حينئذ القول إنهم قد قطعوا الخطوة الأولى على طريق الديمقراطية.
إذن الانتخابات خطوة ضرورية نحو الديمقراطية، ولكنها ليست غاية في حد ذاتها.
والمفارقة المتعلقة بالعملية الديمقراطية هي أنها تتخلق في الحقيقة بطرائق غير ديمقراطية. فقبل أن يتم إجراء أية انتخابات يجب أن تكون هناك نظم وقواعد عملية تحدد الهدف من الانتخابات، كما يجب تحديد البنى المؤسسية الرسمية التي سيتم شغلها بواسطة الفائزين في العملية الديمقراطية. ولكن كيف يمكن لنا الحكم على ما إذا كانت تلك القواعد والنظم العملية ناجحة أم لا؟ لا يمكننا إعطاء الإجابة على ذلك إلا بأثر رجعي، وعن طريق النظر إلى التجارب الديمقراطية بعد فترة من الزمن، للحكم على مدى نجاحها أو فشلها.
إن جميع الدول الديمقراطية تدخل إلى هذا العالم وهي تعاني مما يطلق عليه "العجز الديمقراطي" الذي يقصد به النظام الذي لم يتقرر سلفاً بواسطة أية عملية ديمقراطية. ففي العراق على سبيل المثال هناك 100 حزب ستظهر أسماؤها عند صناديق الانتخابات، ولكن المرشحين أنفسهم سيتوارون عن الأنظار على الرغم من أن هناك ما يربو على 7000 مرشح يخوضون السباق الانتخابي، للحصول على مقاعد في الجمعية الوطنية.
وكل حزب من تلك الأحزاب قام بترشيح قائمته التي سيدخل بها الانتخابات، وسيتم تحديد عدد ممثليه في الجمعية الوطنية، من خلال مجموع الأصوات التي يحصل عليها الحزب في الانتخابات. ويلتزم كل حزب من الأحزاب بترشيح امرأة في القائمة الانتخابية لضمان أن 25 في المئة من أعضاء الجمعية الوطنية سيكونون من النساء. ولن يكون في تلك الانتخابات تقسيم إلى مناطق، مثلما هو الحال في الولايات المتحدة وبريطانيا، ولن يكون هناك مجلسان للبرلمان (كمجلس العموم، ومجلس اللوردات في بريطانيا على سبيل المثال)، وستقوم الجمعية باختيار الرئيس ونائبين له، والعمل كذلك كهيئة تتولى صياغة الدستور الجديد.
وكل تلك الترتيبات تم تحديدها بناء على مفاوضات جرت تحت رعاية الأمم المتحدة، وسيتم وضعها موضع التنفيذ تحت سلطة وإشراف اللجنة الانتخابية المستقلة التي تم إنشاءؤها حديثاً في العراق.
وهذا الافتقار إلى سابقة تاريخية يضع العراق على قدم المساواة مع تجارب دول ديمقراطية أخرى. فالفكر السياسي السائد قبل القرن العشرين كان يتشكك في إمكانية الحصول على تعهد موثوق به، من الفئات الفائزة في الانتخابات بألا تقوم بتسوية حساباتها مع الفئات التي نافستها ،بعد أن تتسلم مقاليد السلطة إلى درجة أن الفيلسوف البريطاني "جون ستيوارت ميل" كتب ذات مرة يقول "إن الليبرالية السياسية مستحيلة في البلدان التي توجد بها انقسامات إثنية أو قومية".
وعلى مدى نصف القرن الماضي أدت الحاجة إلى تأمين النظام الديمقراطي في البلاد الممزقة بالانقسامات الإثنية والدينية، إلى حرماننا من ذلك الافتراض البسيط القائل إن الديمقراطية لا يمكن أن تترسخ في المجتمعات الممزقة.
وبقدر ما يمكننا ربط الديمقراطية بإرادة الأغلبية، فإن نجاح الديمقراطيات الدستورية في الحقيقة يتوقف على القدرة على كبح جماح الأغلبية وذلك من خلال الحد من صلاحيات الحكومة ذاتها، مع السماح في نفس الوقت للأقليات والمعارضة بالوجود والازدهار. هذا هو الاحتياج الأول.
أما الاحتياج الثاني فتقييمه يعد أكثر صعوبة. فقد تبين أن مفتاح الديمقراطية ليس هو القدرة على اختيار الحكام، لأن الانتخابات يمكنها أيضاً أن تفرز طغاة ومستبدين لديهم القدرة على حشد تأييد الموالين لهم، واستخدام الواجهة الديمقراطية ذاتها كأداة لترسيخ خيانتهم للتعهد الديمقراطي، أما في صورة شر صريح كما هو