في الوقت الذي حل فيه الغرب مشكلة الاستبداد بتحديد كونها ليست في تحديد مصدر السلطة لكن في تركيز السلطات جميعاً في يد واحدة، ورأى أن الحل هو في الفصل التام بين السلطات فهو الضمان الأساسي للمجتمع من الاستبداد بحيث تكون كل سلطة قيداً ورقيباً على السلطات الأخرى. هذا ما وصل إليه الغرب منذ أيام الفيلسوف مونتسكيو، وهذا ما فعلوه، فأصبح الغرب غرباً والشرق شرقاً، لأننا في شرقنا لم نعرف بمجيء مونتسكيو وبوفاته منذ عام 1755، ولأننا لم نعرف يوماً مبدأ الفصل بين السلطات، بـل إن بيننا نفر غفير وله نفير يحدثنا اليوم عن الدمج الكامل للسلطات الدينية والدنيوية في حكم بالخلافة يعمل بالشريعة الإسلامية.
وفي الوقت الذي يتكلم فيه العالم كله عن حقوق الإنسان المقدسة في الوطن (حق المواطنة الكامل دون نظر إلى لون أو دين أو جنـس أو عرق) وفي حق الاعتقاد حراً مطلقاً من كل قيد، نتحدث نحن لغة المواطن والبيسري والسادة والموالي والمسلمين والذميين، وفي شأن الوطن تكاد الأوطان تضيع منا مع ذهاب الولاء لوطن إسلامي عالمي غير محدد المعالم ولا الملامح ولا الحدود ولا حتى بتآلف إسلامي بالفرض مع مثل هذه اللغة.
وفي الوقت الذي يمارس الفرد فيه في الغرب كامل الحرية في الاختلاف ديناً أو مذهباً أو رأياً، ويجمعهم الولاء لأرض واحدة وعلم واحد ونشيد واحد ودستور واحد وقانون واحد يطبق بالسواء على الجميع، نتحدث نحن عن أمه واحدة غير موجودة إلا وهماً تمتد إلى حيث يوجد آخر مسلم في الأرض، تقوم على مبدأ التوحيد القومي والسياسي والديني لرب واحد، بينما واقعنا يتحدث عن صراعات حدودية وتشرذمات إقليمية وتفرقة طائفية وتمييز عنصري وانفصام مذهبي لا ينبئ بتوحـد يقوم على وهم الصهر الكامل للجميع تحت مبدأ واحد، لأن رأياً أو مذهباً لن يقبل سيادة رأي مذهبي على سواه.
وفي الوقت الذي يتحدث فيه العالم عن الحريات المفتوحة البراح في التفكير وفي الإبداع وفي حق الاختلاف والنقد، فإننا في بلادنا نتحدث عن الخطوط الحمراء والخطوط الفوشيا حول محرمات على العقل لم تتفق على تحريمها فرق المسلمين حتى الآن، لأنها فقط رأي ومذهب ساد ووضع للأمة خطوطها الحمراء التي تمنع التفكير وتقمع الحرية وتحاكم البحث وأهم ما تمنع أنها تمنع النقد الذي هو نافذة العلم وباب المعرفة.
وفي الوقت الذي يرفع فيه العالم كل القيود عن الحريات وبخاصة حريات البحث العلمي وعن النقد بكافة ألوانه وأنواعه، نتحدث نحن عن ردة من أنكر معلوماً من الدين بالضرورة وكيف نذبحه وعن عقوبة الذي اجتهد مع وجود نص وكيف نحاكمه، فيتحدث العالم كله لغة الحضارة والمدنية ونتحدث نحن لغة الأموات ونتجشأ فقهاً ظل مخزوناً لألف عام أو يزيد لنقتل برائحته العقل والحريات.
وبينما هم يمارسون الإبداع والكشف من أجل راحة الإنسان ورفاهيته ورفع معاناة الأمراض عنه وتوفير الأمصال الواقية لـه وتحقيق الرابط لكل البشر بهندسة الاتصالات العبقرية، والتدخل في جينات الوراثة حتى ينتج النبات أكثر ويعطي الحيوان وفرة لتغذية ملايين الأفواه الجائعة، بغض النظر عن الجائع أو المريض هل هو مسلم أو سيخي، يهودي أو مسيحي، موحد أو ملحد أو وثنـي. فإننا بعد أن نستفيد بكل منجزهم نستخدم عقلية الغازي قاطع الطريق، فنهبط على منجزهم لننسبه لأنفسنا حتى نتيقن أننا كنا نحن المكتشفين ولم نكن نعلم؟
وبينما هم يتحدثون عن حق الضعيفين: المرأة والأقليات، نؤكد نحن دون أن نستحي أن تاريخنا الأسود كان هو تاريخ حقوق الإنسان وحقوق المرأة، بكلام مصاب بالحول المنهجي لأن المبدأ يجب أن يتحقق في الواقع أولاً حتى يمكن أن نعطيه دلالاته اللفظية ثانياً، لا أن نسرق المفاهيم لنطبقها على أمور لا نعرفها في واقعنا ولم نعرف شيئاً عنها عبر تاريخنا الطويل الحزين.
المقارنات أكثر من أن تحصي وهنا لا يبقى محل للسؤال: لمـاذا تخلفنا وتقدموا؟.