بعد فترة هدوء ملحوظة تجدد أخيراً موسم الخطابة عن نشر الديمقراطية في العالم. بالطبع كانت الخطبة الأكثر دوياً وجذباً للأسماع تلك التي ألقاها الرئيس الأميركي بوش في مناسبة افتتاح ولايته الثانية.. في حين كانت الخطبة الأوروبية خافتة بلسان مسؤول صغير وهو فرنشيسكو أكوستا المستشار السياسي في سفارة الاتحاد الأوروبي في بيروت حول سياسة الحوار الأوروبي. لقد أصبح السؤال الأعظم الذي يشغل أذهان المراقبين لمواسم الخطابة والتبشير بالديمقراطية التي تهب من الولايات المتحدة وأوروبا سؤالاً ينصب على مدى جدية أصحاب هذه الخطب والمواعظ في تطبيق ما يقولون. ومن معطف السؤال الأعظم تنبثق أسئلة عديدة أهمها.. هل حقاً طلق الأميركيون سياستهم التي استمرت ستين عاماً حسب تقدير الرئيس بوش والتي قامت على إعلاء شأن المصالح الأميركية المباشرة والتي تتحقق عبر دعم النظم الديكتاتورية والتحالف معها ضد الشعوب المتطلعة إلى الديمقراطية في جميع أنحاء العالم؟ وهل حقاً استقر في أذهان صناع السياسة الأميركية والأوروبية المفهوم الأمني الاستراتيجي الجديد الذي تعبر عنه الخطب الرنانة وهو المفهوم الذي يرى أن المخاطر الأمنية الكبرى التي تعرضت لها المدن الأميركية والأوروبية لا يمكن تجفيف منابعها بالجهود العسكرية وحدها وأنه لابد من تجفيف منابعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتي تلخصها كلمات ثلاثية الفقر والاستبداد والفساد؟ أم أن كلمات هذه الثلاثية التي ظهرت لأول مرة في وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأميركي الصادرة عن الرئيس بوش عام 2002 هي مجرد كلمات لتخفيف مشاعر الكراهية بين الشعوب للسياسات الأميركية فضلاً عن كونها مجرد غطاء بلاغي لسياسات دعم الديكتاتوريات في جميع أنحاء العالم طالما أنها تتعاون في تحقيق المصالح والأهداف الأميركية؟ وإذا ما صح الافتراض أن الساسة في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي -والذين أمطروا العالم بسيل من المبادرات الخطابية حول نشر الديمقراطية زاد عددها عن عشر مبادرات- قد أصبحوا حقاً مستعدين لحماية بلدانهم من موجات الكراهية والإرهاب عن طريق التمسك بالمفهوم الأمني الاستراتيجي الجديد القاصد إلى محاربة الديكتاتورية كوسيلة لمحاربة الإرهاب، فماذا هم فاعلون عندما ينصحهم البيروقراطيون في وزارات الخارجية والاقتصاد والتجارة والدفاع بضرورة غض الطرف عن تطبيق هذا المفهوم مراعاة لمصالح مباشرة مطلوبة؟
وماذا سيفعل الساسة الأميركيون والأوروبيون إذا ما نصحهم البيروقراطيون في الوزارات المختلفة بالتعاون مع أصحاب البزنس بضرورة إغماض العين عن تطبيق هذا المفهوم الأمني الاستراتيجي بحجة أن نشر الديمقراطية سيؤدي إلى وصول قوى وأحزاب سياسية أقل ولاء وطاعة للسياسات الأميركية والأوروبية في المجالات المختلفة؟
وإذا ما اقتربنا من الشرق الأوسط وهو مصدر المخاطر الإرهابية طبقاً للمفهوم الأمني الاستراتيجي المشترك بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي فماذا سيفعل الساسة الأميركيون والأوروبيون عندما تقدم إليهم عروض سخية بالتعاون في مجال تنفيذ ضمانات الرئيس الأميركي لشارون حول تسوية الصراع بدءاً بالإبقاء على كتل الاستيطان الكبرى وانتهاء بإلغاء حق العودة للاجئين فضلاً عن استئناف عمليات التطبيع مع إسرائيل؟ هل سيرى الساسة الأميركيون والأوروبيون أن هذه العروض أهم من تطبيق المفهوم الأمني الاستراتيجي لنشر الديمقراطية؟ وماذا سيفعلون عندما تقدم لهم عروض بالتعاون الكامل في كل مطالبهم للسيطرة على الوضع في العراق؟ هل سيجدون في هذه العروض ترضية كافية تدفعهم إلى ابتلاع خطبهم عن نشر الديمقراطية؟ وإذا انتقلنا إلى سياسة الجوار الأوروبي الجديدة والتي تقوم على إقناع دول المتوسط الجنوبية بتطبيق إصلاحات ديمقراطية مقابل فرص اقتصادية ودعم مالي.. فهل حقاً يصدق الاتحاد الأوروبي نفسه في أنه يستطيع نشر الديمقراطية بمبلغ خمسة وأربعين مليون يورو مخصصة لجميع دول جنوب المتوسط وشمال أفريقيا في البرنامج المعروف باسم "ميدا"؟ هذه أسئلة موجهة إلى أصحاب موسم الخطابة الجديد عن نشر الديمقراطية من باب الحوار في محاولة لفهم حقيقة ما يدور وما تهدف إليه الخطب البلاغية والبرامج الصورية.