المجتمع الإسلامي مجتمع إنساني متسامح مفتوح لكل الآراء والاتجاهات. ولكن هذا كلام نظري. ومع أن القرآن فتح الطريق لحرية الاعتقاد اعتناقاً وتغييراً بآية "لا إكراه في الدين" ولكن الثقافة الموازية عطلت هذه الآية عملياً، ويقول البعض إن من يغير عقيدته يقتل. واليوم في الغرب يغير الإنسان عقائده مثل ثيابه ولا يخشى على نفسه من القتل. فمن أين إذن جاء حكم (قتل المرتد)؟ هل هو حكم فقهي فعلاً؟ أم لعبة سياسية لتصفية أي لون من المعارضة الفكرية؟ هل هو من القرآن أم من كتاب السيوطي "بلوغ المآرب في أخبار العقارب"؟
والجواب إنه حكم من جيوب فقهاء العصر المملوكي أو (الثقافة الموازية).. والثقافة عندها قدرة أن تعطل أعظم النصوص وتدشن (إسلاماً ضد الإسلام) بتعبير النيهوم. ونحن نعلم أن الرسول، لم يقتل أحداً لأنه كفر بل للجريمة، والستة الذين استباح دمهم فقال اقتلوهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة، وعاد فعفا عن نصفهم كان للجرائم التي ارتكبوها أكثر من عقائدهم التي حملوها.
وهناك من يذهب إلى اكتشاف أحاديث تلغي النص القرآني فيستبدل الأعلى بالأدنى، مثل (من بدل دينه فاقتلوه) وهذا يستتبعه ـ لو أريد تفسيره حرفياً ـ أن النصراني إذا غير دينه فاعتنق الإسلام أن يقطع رأسه، فيدخل الإسلام بدون رأس.
كما أن حديث (أهل عرينة) الذين ارتدوا، قتلوا ليس لأنهم ارتدوا كما يخيل للبعض بل لأنهم سلبوا وسفكوا الدم الحرام. وهو أمر اقترب منه (البوطي) في كتابه عن الجهاد حينما اعتبر (الحرابة) هي التي تفسر قتال المرتدين. وتعليل أبو بكر الصديق، لقتالهم كان واضحاً بسبب عصيانهم المسلح حينما امتنعوا عن تأدية الضرائب، وهو أمر لا تقبله الدول الحديثة، وتجبر صاحبها على تأديته، وهو ما فعله أبو بكر الصديق ر بقوله:"لو كانوا يؤدون عقال بعير لقاتلتهم على منعه".
وهذا الأمر حسبما أذكر فكرت فيه مؤسسة دينية معتبرة في مصر مختصة بالعقائد فرأت أن استتابة المرتد مفتوحة لكل العمر. وهي خطوة بسيطة في أول الطريق للتخلص من هذا التوجه الذي يسيء للإسلام. وحالياً تحدث مراجعة في العديد من الأوساط الإسلامية للتخلص من هذه المسلمة في قتل (المرتد)... أنه حكم يجب التخلص منه ولا علاقة له بقرآن وإسلام. ففي السودان أعلن الترابي براءته من الحكم، ولكن الغزالي في مصر لم ينكشف الغطاء أمام عينيه كما حصل مع القضايا العديدة التي لمسها في كتابه "السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث" فاعتبر أن قتل (فرج فودة) في مصر كان عملا صحيحاً في أصله ولكنه "افتئات على حق الدولة".
وأهمية هذا الموضوع تتعلق بمشكلة الحرية والتعبير. فعندما نحجز الناس في مربعات التفكير ونقطع ألسنتهم نعتقل العقل، فتتيبس مفاصله عن الإبداع وهو سر الانحطاط في العالم الإسلامي. وحين نسمح للناس بخيارات محددة باتجاه واحد فيكون مثلنا مثل من يريد بناء طرق سريعة باتجاه واحد، أو سيارات بقوة دفع للأمام فقط، فإذا دخلت السيارة الكراج انحشرت فيه فلم تغادره، وهي كارثة على شركات صناعة السيارات لو حصلت، ولكنها واقعة يومية نعيشها فنسمح لعقولنا بالمشي في اتجاه واحد، والله غني عن إيماننا وكفرنا، ومع الإكراه لا يبقى الإيمان إيماناً ولا الكفر كفراً.
إن أهم ما كتب الفيلسوف "إيمانويل كانت" مقالة بعنوان "ما هو التنوير؟" (Die Aufklaerung). يقول: حين يتحول الدين إلى إرهاب، والسلام والتسامح إلى جنون وتعصب، يفقد الدين روحه ويتحول إلى نصوص ميتة يتلوها أناس أموات من الكتبة. من يومها حرم الملك (فريدريك) على"كانت" أن يتناول أي مسألة دينية في نقده. وأخرس الفيلسوف.
ونحن حالياً يوضع على مسافة خمس أمتار من غرف نومنا أربع مكبرات صوت بقوة 140 ديسبل للواحد توقظ الأموات قبل الأحياء ولا نستطيع أن نسجل كلمة اعتراض واحدة. والآن يجلس "الدين" على عرش الإرهاب، وهو خلف كل إرهاب. وليس الاستبداد السياسي إلا تلميذاً متواضعاً في مدرسته. ومنه حاجتنا إلى "مارتن لوثر" إسلامي.