بدأت ولاية الرئيس الاميركي بوش الثانية رسمياً بعد أن أدى اليمين الدستورية أمام رئيس المحكمة العليا الأميركية. وشرح بوش في خطاب تنصيبه رؤية الإدارة الأميركية التبشيرية بالحرية من أجل إنهاء الطغيان في العالم. الخطاب الذي يعد برنامج العمل للإدارة للأربع سنوات الرئاسية القادمة، امتطى به الرئيس الأميركي صهوة الحرية والديمقراطية وامتشق سلاح محاربة الاستبداد ومضى في كلام إنشائي رائع، أعيدت كتابته 21 مرة واستغرق 17 دقيقة، ترددت فيه مفردة الحرية 41 مرة حسب إحصائية خبيثة. قفز في خطابه الفلسفي عن الواقع العراقي والشرق الأوسط بكل تضاريسه التي ساهمت في تشكيلها السياسات الأميركية، وخلا الخطاب كذلك من مفردات الإرهاب ومشتقاته الأمنية، إذ لا صوت يعلو على صوت "المعركة من أجل الحرية". وأعلن بوش في خطابه "أن سياسة الولايات المتحدة تقوم على السعي للحصول على دعم الحركات والمؤسسات الديمقراطية في جميع البلدان وجميع المجتمعات وتقديم الدعم لها لتحقيق هدف واحد هو وضع حد للطغيان في العالم"... ومن الحرب على الإرهاب إلى الحرب على الاستبداد.
هل صاغ هذا الخطاب فعلا السياسة الخارجية الأميركية للسنوات القادمة؟ وهل تجاوزت واشنطن الحرب على الإرهاب إلى الحرب على الاستبداد؟ هل كان خطاباً على كوكب المريخ أم على كوكب الأرض بشرق أوسطه الذي نعرفه؟ الحرية مفهوم عام... فما هي مرجعياته؟ هل هي النموذج الأميركي على وجه الافتراض؟.
كل هذه الاسئلة وغيرها الكثير مشروعة تماماً ودارت في ذهن الكثيرين في اللحظة التاريخية التي أعلن فيها الرئيس الاميركي "أن أفضل أمل للسلام في عالمنا يكمن في توسيع الحرية لتعم العالم بأسره". ربما تكون نقطة البداية الصحيحة للإجابة عن تلك الاسئلة هي الواقع العربي نفسه وبالأخص العلاقات الأميركية العربية. فرغم أن الولايات المتحدة لم تكف في تاريخها الحديث، عن الحديث عن نشر الديمقراطية في العالم واعتبار أن الديمقراطية وحقوق الإنسان من المبادئ الأساسية في السياسة الخارجية الاميركية وأن سجل الدول يعد مقياساً في التعاطي معها نظرياً، إلا أن تلك المفاهيم أو المثل العليا الأميركية تجسدت في الخطاب الرسمي.
ففي الولاية الأولى للرئيس الاميركي بوش انتقل الحديث من المبادئ إلى الحديث عن رسالة فعلية للولايات المتحدة في نشر الديمقراطية في العالم. واتخذ هذا الطابع بعداً تصاعدياً من حديث عن الإصلاحات فحرب ديمقراطية، وخلق ديمقراطية عربية نموذجاً في الشرق الأوسط الكبير- "الكارثة العراقية"-، لذا فالتأكيد الأميركي من جديد على حرب الحرية لا يعني إلا أن الولايات المتحدة تؤكد حقها المشروع في التدخل في أي مكان في العالم باسم دعم الحريات ونشر الديمقراطية. فهل يستطيع الرئيس الأميركي أن يحقق ما جاء في خطابه على أرض الواقع؟ سؤال منطقي.
للأسف لم ينصت العالم العربي لخطاب تنصيب الرئيس الاميركي، ليس لأنه كان مشغولا باحتفالات عيد الاضحى، لكن لأن وقع الانفجارات في العراق أعلى من وقع خطاب الحرية من ناحية، ولأن الشعوب المقهورة تعلمت أن الرومانسية السياسية تسكن الخطابات والايديولوجيات، وأن الواقع واقع على رؤوسها بالاستبداد العربي المقيم والدعم الأميركي للأصدقاء.
هل تتصور الولايات المتحدة أن الشعوب العربية المقهورة سترفض الطرح الأميركي؟ صحيح أنه تساؤل بمنتهى السذاجة السياسية لكن الأخطر منه، أين موقع الاستقرار في السياسة الخارجية الأميركية؟. الاستقرار، بمعنى استقرار النظم الصديقة واستمرار سلاسة تدفق النفط. أي بعبارات أخرى، هل تتغير الاستراتيجية الأميركية التي انتهجتها الإدارات الاميركية على اختلافها منذ أن أصبحت لاعباً رئيساً في الشرق الأوسط؟.
هناك تناقض واضح بين الحديث عن الديمقراطية والإصلاح من ناحية والعلاقات الأميركية مع المستبدين الصغار والكبار في الشرق الأوسط والعالم. هل يؤرخ هذا الخطاب لمستقبل تعمه الفوضى والحروب الاستباقية لأسباب ديمقراطية؟. هناك تناقض واضح بين تبشير بوش بالحرية والكارثة العراقية، رغم أن الرئيس الأميركي لم يسمِّ ركائز الاستبداد إلا أن وزيرة الخارجية الاميركية سمتها. فهل تبدأ الحرب "الديمقراطية" في إيران؟
كان خطاب التنصيب خطاباً أخلاقياً فلسفياً برزت فيه إيديولوجية الرئيس الأميركي وإدارته. لعب فيه الرئيس الأميركي دور فارس الحرية والديمقراطية، "نحن مستعدون لتحقيق أكبر الإنجازات في تاريخ الحرية". فماذا بعد؟ نحن في الانتظار.