تتسع الآن في العالم، الأوروبي خصوصاً، موجة الاحتجاج على المحاولات الكثيرة الحثيثة، لإنتاج حالة من اختزال الثقافات الإنسانية جميعاً إلى ثقافة واحدة يُراد لها أن تكون ثقافة "العالم الواحد أو القطب الواحد". وقد اتضح أن ذلك عسير المنال إن لم تخضع ثقافات الشعوب لعملية إعادة بناء تجعل منها - على الأقل- ثقافات متعددة قابلة للاندراج في ثقافة عالمية واحدة، مما قد يمثل مرحلة تضاؤلها وتراجعها أو انكفائها وتحولها إلى مظاهر محلية فولكلورية، لصالح الثقافة العالمية "الأم". إن عملية اختزال الثقافات العالمية إلى واحدة منها ليست سليلة مرحلتنا "العولمية" الراهنة وإنما هي تذهب إلى تاريخ سابق على ذلك. أما الطريق إلى ذلك فيُراد له أن يتم عبر تفكيك هويات الثقافات الوطنية والقومية والدينية التي تقف عائقاً أمام ذلك الهدف العولمي الأعظم.
وبعودة إلى التاريخ الثقافي الأميركي، نضع يدنا على الاحتجاج الذي قدمه الفيلسوف الأميركي أرسون في عام 1860 على ما سمّاه "العدوى الأوروبية". فحسب مجلة Le point الفرنسية (عدد 22 يوليو 1985)، طرح الفيلسوف إياه تساؤله التالي المفعم بالدهشة والاحتجاج: هل يمكن أن نستخلص العدوى الأوروبية من عقول مواطنينا؟. وتعقّب المجلة المذكورة: بعد مئة وعشرين عاماً ها هي العدوى الأميركية تغزو عقولنا الأوروبية. ونذكّر أن هذا التعقيب أتى عام 1985، أي قبل أربع سنين من بواكير نشأة النظام العالمي (العولمي) الجديد، وقبل ستة عشر عاماً قبل الحادي عشر من سبتمبر. والسؤال : هل تتمكن الدول والشعوب من الوقوف في وجه ذلك "الغزو"، غزو العقول الأوروبية، وكذلك عقول الشعوب الأخرى في العالم، وأي نموذج هو المناسب لتحقيق هذا الهدف؟
إن الإجابة عن الشق الأول من التساؤل السابق قد تكون مفتوحة، أما المواقف التي جرى توظيفها حِيال الغزو المذكور فيمكن توزيعها على النحو التالي، وإن أتى ذلك بصيغة التمثيل دون التوافق مع السياقات التاريخية: أولاً الموقف الذي اتخذ بصيغة الاستجابة نمثل عليه بما أتى في مشهد من فيلم من إخراج نورمان جويسون وعنوانه "الروس قادمون، الروس قادمون". أما المشهد فيتحدث عن سفينة سوفييتية حطت عام 1966 عن طريق الخطأ على أحد الشواطئ الأميركية، ونزل منها بعض البحارة بعد أن أضاعوا طريقهم. ويدخل أحد هؤلاء إلى منزل أميركي فيفتح الثلاجة الموجودة فيه، فيهتف قائلاً: آه... كوكاكولا!
أما الموقف الثاني فيقدمه نموذج ألماني نازي متحدر من المرحلة الهتلرية قبيل الحرب العالمية الثانية. ويظهر فيه أن الشخصية الطفيلية الأميركية على صعيد الألعاب والمعروفة باسم "ميكي ماوس"، يجري رفضها ومنعها من قِبل "جوبلز" أن تدخل ألمانيا وتنتشر في أوساط الأطفال الألمان. ومن ثم، يجري التعبير عن "خصوصية" الوضعية الثقافية الألمانية، وإن بالصيغة النازية، التي قامت - هي بدورها- على محاولة تنميط الثقافات العالمية لصالحها.
في الخيار بين هذا وذاك من المواقف، نرى أن كليهما زائف وخاطئ، ومن ثم فإنهما يضيعان الهدف المتمثل في "الثقافة" أولاً، وفي الحوار الثقافي (المثاقفة) ثانياً. وهذا الهدف يغدو موضوعاً أكثر أهمية وخطورة، حين ننظر إليه في ضوء مرحلتنا، التي تعمل فيها "العولمة الثقافية" الأميركية على تفتيته، بحيث يُفضي إلى النتيجة التالية:لا ثقافات (بالجمع) ولا حواراً ثقافياً، وإنما هنالك ثقافة (بالمفرد) وتنميط ثقافي!
بيد أن ذلك الاستحقاق، الذي يطرحه النظام العالمي العولمي الجديد، لا يمكن - فيما يرى كثيرون- تحقيقه إلا بتدمير الثقافات المتعددة عبر تحويل أصحابها إلى نمط جديد من التابعين وربما العبيد بإرادتهم - عبر إقناعهم بكثير أو قليل من المغريات- ودون إرادتهم بالقوة الصماء. من هنا، تبرز الآن أهمية الثقافة الوطنية أو لنقل المحلية المنفتحة على ثقافات العالم بوصفها صماماً في وجه العملية التنميطية، التي يسعى النظام المذكور إلى إحلال هيمنتها في العالم. وقد نبه عالم الأنثروبولوجيا الشهير كلود ليفي- ستروس إلى.."أن بشرية مذابة في نمط معيشي وحيد هي بشرية لا يمكن تصورها، لأنها ستكون بشرية عظمية".