في النهاية، لم يكن الرئيس الأميركي يكلم نفسه، يوم تنصيبه، كان يخاطب شعبه وشعوب العالم، فهل فهم الناس رسالته؟ أمر مشكوك فيه. لأن هذا الكم من الكلام الجميل والأفكار الطيبة والنيات الحسنة لا يمكن أن يكون مطمئناً ولا مريحاً، خصوصاً إذا كان مصدره معروفاً، بل مجرّباً. لم يقل جورج بوش شيئاً لم نسمعه منه سابقاً، لذلك استحق العبارة التي طالما أطلقها في اتجاه الآخرين: نريد أن نرى الأفعال لا أن نسمع الأقوال. لا يمكن فهم ما يعتزمه بوش إلا مقروناً ومقارناً إلى ما أقدم عليه في ولايته الأولى. فهو لا يحبذ الغموض، ومع ذلك افتتح ولايته الثانية بخطاب الالتباس. فالعالم لا يتوقع منه صياغات أدبية إنشائية، ولا نبرة إيمانية تخصه وحده، بل ينتظر من رئيس الدولة العظمى الوحيدة أن يوضح توجهاته "الجديدة" إذا كانت جديدة فعلاً. والأهم أن السنوات الأربع الأخيرة جاءت بالكثير مما يفترض تعلمه لتصويب قيادة شؤون العالم.
الأكيد أن بوش يعرف هذه التوقعات وشاء أن يخيّبها، فهو لا يزال "رجل حرب" كما وصف نفسه، لذلك تعمّد ألا يكون واضحاً ومباشراً، كما يحب، لأنه يريد ترك أعدائه في حيرة. كل ما يستطيعونه هو التخمين. لكنه، في الواقع، ترك أصدقاءه وحلفاءه أيضاً في حيرة. نعم، هناك تغيير لا يريد أن يفصح عن اسمه. لا، هناك بالأحرى "لا تغيير" لا يريد كذلك أن يجهر بهويته. هكذا غامر البعض والبعض الآخر في تفسير النيات البوشية. ولماذا الحيرة والتساؤل؟ الرجل لم يتغير. ويجب عدم الذهاب بعيداً في التعقيد. فهو قبل 11 سبتمبر أفهم كل من حوله بأنه موسوس بثأر والده (إسقاط صدام حسين). وهو بعد 11 سبتمبر أصبح معذوراً إذ كان لا يرى في صورته التاريخية التي يتمناها لنفسه سوى ثأره بالاقتصاص من أسامة بن لادن شخصياً. هذه عقلية تكساسية لا غبار عليها.
إذا تعمقنا أكثر في لائحة الثارات التي اختزنتها الإدارة الأميركية، خصوصاً تلك التي لم تتمكن من تحقيقها بسبب ظروف الحرب الباردة، نجدها كلها مرتسمة الآن في سياسة واشنطن. ومن لم تسعفه الذاكرة فليقرأ شهادة كوندوليزا رايس أمام لجنة الكونغرس. من روسيا إلى الصين، ومن سوريا إلى "العصابات" الفلسطينية - كما سمّت فصائل المقاومة- وصولاً إلى لائحة الدول الست المغضوب عليها. وأن يغطي بوش ووزيرته استهداف هذه الدول وشعوبها بمصطلحات "الحرية" و"الديمقراطية" ومكافحة "الطغيان"، فهذا لا يبدّل شيئاً في الواقع. والأفكار قد تكون بالغة الجمال، إلا أن تطبيقها وإدارتها وتفعيلها يمكن أن تكون بالغة البشاعة. ثمة في ما حصل في العراق وللعراق ما يبرهن على هذا التناقص المأساوي.
لقائل أن يقول، عن حق، إن الحرب على الإرهاب أمر جدي، لأن المخاطر لم توفر أحداً، ولذلك فمن الطبيعي أن يكون رئيس الدولة العظمى الوحيدة هاجساً بها. فهمُّ الأمن لم يعد أميركياً فقط، بل أصبح عالمياً. والفظائع التي ارتكبها الإرهاب أو تسبب بها تستحق أن تواجه بمعركة "نشر الحرية وتوسيعها"، ولا حرية من دون ديمقراطية أياً كانت صيغتها أو كان شكلها. كل ذلك صحيح، ولن تجد فيه واشنطن عراقيل من حلفائها أو أصدقائها، الخلاف هو على المفهوم وعلى الطريقة. لا يمكن أن تكون الحرب الأسلوب الوحيد الناجع، ومن شأن العالم المعاصر أن يحاول ما لم يحاوله سابقاً لمعالجة الأزمات الصعبة: قوة السياسة. إنها تتطلب وقتاً أطول لكنها يمكن أن تضمن انتقالاً أقل دموية وأقل تفجيراً للتناقضات الاجتماعية على النحو الذي يشهده العراق بعدما شهدته يوغوسلافيا السابقة.
ثم إن هناك الأهم، وهو أن الولايات المتحدة بنت كل منظومات مصالحها وسياساتها الخارجية على مفاهيم وقيم لم تبالِ بالحرية ولا بالديمقراطية، ولا أحد يصدق أنها باتت الآن مع جورج دبليو بوش ترى مصالحها في حرية الشعوب ولا شيء سواها.
لقد أدت مساندة الطغاة للحصول على المصالح إلى بناء سياسات أميركية خاطئة، ولا يمكن الاستمرار بهذه السياسات الخاطئة مع إسقاط هؤلاء الطغاة. أتيح للرئيس بوش حتى الآن أن يعترف مرتين بخطأ دعم الأنظمة الديكتاتورية، إلا أنه لم يبدِ بعد أي تحرك للتخلي عن إغراءات هذا الدعم. بل على العكس هناك إصرار على إدامة الخطأ من خلال تسويات وصفقات من قبيل مواصلة "البزنس كالمعتاد". وليس معروفاً، مثلاً، كيف تستقيم "رسالة الحرية" البوشية مع الإمعان في دعم الأطماع والعدوانية الإسرائيليين. وطالما أنه لم يرَ التناقض الفادح في هذه الحالة تحديداً فإن كل الخطابات عن الحرية ستبقى مجرد ابتذال إعلامي.
لا شك أن الأمن لا يزال محور الاستراتيجية الأميركية في حربها المفتوحة ضد الإرهاب. وحينما تأمنت للولايات المتحدة مصالح أمنية، فإنها تغاضت علناً وصراحة عن مطالبها بالحرية والديمقراطية، والأمثلة واضحة ومكشوفة. من هنا فإن الحكم على توجهات بوش يكون أكثر واقعية كلما استقرأ الوقائع، أما الخطابات فلا قيمة لها خصوصاً عندما تستخدم لتعمية الحقائق.