تمر دول مجلس التعاون الخليجي الست بمرحلة تحولات دراماتيكية هائلة. فقد أحدث العمران وبناء المدن الحديثة والطرق السريعة وإنشاء المطارات والموانئ البحرية، وكذلك محطات تحلية المياه، والتشجير والاهتمام العام ببيئة المكان، تغيرات شاملة وملحوظة على وجه هذه الدول وملامحها. وفي الجانب الاجتماعي، فقد أسفرت نظم الرعاية الاجتماعية المعمول بها عن مجتمعات صحية معافاة، متعلمة ومتوثبة للتنافس مع أفضل ما في العالم. ولعل التراكم الذي حدث في مجال رأس المال البشري، يعد أحد أبرز ملامح هذا التحول، وأكثرها وضوحاً. فقد أسهم بروز النخب الجديدة المكونة من التكنوقراط والمثقفين والمتعلمين، في إحداث تحولات كبيرة على نظم الأسر التقليدية الحاكمة. بيد أن التحولات نفسها، فتحت الباب على مصراعيه أمام تغلغل وتوغل قوى التأثير الخارجي، وكذلك لانهيار المجتمعات التقليدية السابقة لهذه التحولات. مع ذلك، فإنه لمن الصعوبة والخطورة بمكان أن نطلق التعميمات جزافاً على دول مجلس التعاون الخليجي الست، بسبب الاختلاف القائم بينها من النواحي التاريخية والجغرافية، ومستوى ودرجة ثرائها، وتركيبتها السكانية، إضافة إلى الاختلاف القائم في نظم الحكم فيها.
وليس ذلك فحسب، بل تختلف طبيعة الأسرة الحاكمة في كل واحدة من هذه الدول، بقدر ما تختلف وتتباين أوضاعها داخل تلك المجتمعات. فبعض هذه الأسر يميل نحو الديمقراطية، بينما يميل البعض الآخر نحو التسلط وحكم الأقليات القابضة. وبعضها يغرق في الاستثمار والنشاط التجاري الربحي، بينما يتقيد البعض بالعمل في الجانب السياسي وحده. لكن وعلى رغم هذه الاختلافات والتباينات الكبيرة التي عرضنا لها بين دول المجلس، إلا أنه يمكن القول إجمالا إن هذه الدول تشهد نهوض وتشكيل تحالفات سياسية جديدة تلقي بتأثيراتها على التحول الجاري في تركيبة السلطة التقليدية، بحيث تستطيع التركيبة السياسية الجديدة التصدي للمشكلات التي يثيرها الواقع المتحول الجديد. ولا نعني هنا أن دول مجلس التعاون الخليجي، باتت قاب قوسين أو أدنى من تبني النمط الغربي للديمقراطية. بل المقصود هو أن هناك عملية إصلاح سياسي جارية الآن، وأن دول المنطقة قطعت بضع خطوات قصيرة ومحدودة صوب الليبرالية السياسية، على أن الطابع العام لهذا المنحى، أنه لا يزال بطيئاً ومتردداً.
وفي الواقع فقد أسفر ارتفاع عائدات النفط في بعض الأحيان، عن انغلاق بعض الأسر الحاكمة في المنطقة على نفسها أكثر من ذي قبل، وأصبح الوصول إليها أكثر صعوبة بما لا يقاس بالماضي، بينما صارت هذه الأسر أقل حماساً لاقتسام السلطة مع أبناء وقيادات الطبقات المتوسطة. ومع ذلك فقد أصبح من المتعذر جداً على الأسر الحاكمة في المنطقة، تجاهل الرأي العام، نظراً لتنامي الضغوط التي يمارسها هذا الرأي العام على الحكام والحكومات معاً. فقد تمخضت الثورة المعلوماتية –لا سيما إنشاء المحطات والفضائيات التلفزيونية- عن إقامة منابر أخرى، خارجة عن قبضة وهيمنة الحكومات في المنطقة. ومع ذلك، فإن بروز ثقافة ديمقراطية، ذات طابع شعبي متجذر هنا، لا يزال بعيداً جداً عن الأفق والاحتمال.
هذا وقد أصبحت مكانة المرأة في المجتمع، مثار نقاش وخلاف كبير بين القوى التقليدية والإصلاحيين اليوم. فمما لا شك فيه أن دور المرأة يزداد بروزاً يوماً إثر يوم في الحياة العامة لكافة البلدان المذكورة. وفي بعضها تشارك النساء في الانتخابات الخاصة بالمؤسسات والمنظمات المهنية. ففي عمان على سبيل المثال، جرى انتخاب امرأة في عضوية مجلس إدارة غرفة التجارة العمانية. أما في الكويت، فتتقلد ثماني نساء، منصب عمادة ثمان من كليات جامعة الكويت البالغة ثلاث عشرة كلية. وحتى إلى وقت قريب جداً، ظلت امرأة بحرينية متميزة، تمثل سفارة بلادها في فرنسا، واستطاعت تلك السفيرة البحرينية أن تترك أثراً كبيراً وإيجابياً على الرأي العام الفرنسي عن بلادها. وعلى ذلك قس الكثير جداً من الأمثلة التي يمكن سوقها على الاهتمام الذي بدأت تحظى به المرأة في هذه المجتمعات. ولعل بعض هذا الاهتمام يعود إلى تنامي الوعي بضرورة التحاور مع الغرب. ومما لا شك فيه أيضاً أن ثمة درجة من اللييرالية الآيديولوجية تجري الآن في المجتمعات ذاتها، مصحوبة بقدر من العزم أيضاً على إجراء الإصلاحات. خذ لهذا المملكة العربية السعودية مثالا، حيث جرت فيها إدارة حوار وطني تحت رعاية الدولة، أفضى إلى الاعتراف بتعدد الرأي، بينما فتحت الصحف السعودية التي تسيطر عليها الحكومة، أعمدتها وصفحاتها لأقلام الإصلاحيين الإسلاميين.
هذا وسيتوقف مستقبل التحولات الجارية في دول مجلس التعاون الخليجي، على عدة عوامل واعتبارات متشابكة ومعقدة، على الصعيدين الداخلي والخارجي معاً. وبين هذه العوامل، المدى الذي تجدُّ فيه النخب الحاكمة فعلياً في نشر الإصلاحات الليبرالية والترويج لها. ومنها أيضاً ما ستفضي إليه المواجهة بين الأفكار الليبرالية والفكر الإسلامي المتشدد، والدور المستقبلي للأحزاب الشيعية في