إذا كانت فضيحة "أبو غريب" حصلت داخل سجن عريق عرف بفنون التنكيل والتعذيب على مر سنوات حكم صدام حسين. وإذا كانت فضائح التعذيب وسوء المعاملة في جوانتانامو تمت على سجناء اعتبرتهم الإدارة الأميركية من عتاة المجرمين والإرهابيين، فإن فضيحة تعذيب المدنيين العراقيين على أيدي جنود التاج الملكي البريطاني، قد تمت في مكان ما في البصرة أطلق عليه اسم "سلة الخبز" (بريد باسكيت)، وهو عبارة عن مخيم كبير كانت القوات البريطانية تخزن فيه المؤن، التي تصلها، لتوزيعها على القرى والمدن الجنوبية المحتاجة.
أريد أن افترض أن أهل "أبو غريب" هم كما وصفهم أحد المسؤولين في وزارة الدفاع الأميركية، مجرد "حثالة"، و"إرهابيين" رموا في السجن للتأديب. وأريد أن أقنع نفسي وغيري أن تكديس اللحم البشري العاري فوق بعضه بعضا، "ليس جريمة" كما إرتأى المسؤول الأميركي نفسه، ليبرر ما حصل من إذلال وإسفاف وقهر للإنسانية في "أبوغريب"...و"إن ما كان يحدث أيام صدام أعنف مئات المرات ولم يكن أحد يتحدث".
أريد أن أفترض أيضا كما يتنطح بعض "المثقفين" العرب، المدافعين عن "الديمقراطية" و"الحرية" و"حقوق الإنسان" بأن مجرد كون فضيحة "أبو غريب" قد "فضحت" من قبل الإعلام الغربي، فهذا وسام شرف على صدر هذا الإعلام الذي يستطيع أن يفضح، "ولكنه مع الأسف لا يستطيع، رغم كينونته كسلطة رابعة أن يمنع الاعتداء". فنحن(العرب) مع الأسف في الإعلام وفي الواقع، ننفضح ولا نفضح وبالتالي"كثر الله خير الفاضحين، حتى لوكان هذا الخير، عبارة عن صور لمزيد من الانتهاكات والمرارة والذل. الصور هذه المرة لا علاقة لها بالإرهابيين، إلا إذا اعتبرنا من يحاول سرقة شيء من الخبز أو القليل من الحليب المجفف، أو الزيت النباتي، في زمن الشح والحرب والقلة، إرهابا مدروسا، يعاقب عليه القانون البريطاني، بشيء من الجنس المريض والكثيرمن الخسة.
صور إساءة معاملة عدد من المدنيين العراقيين من المرجح أنها التقطت في مخيم المساعدات الغذائية في ضواحي البصرة ، والمعروف بـ"سلة الخبز". ويبدو أن المدنين الذين عذبوا قد حاولوا سرقة بعض المواد الغذائية ذات يوم في أواسط مايو 2003، فجردوا من ملابسهم ووضعت على رؤوسهم أكياس البلاستيك وتلقوا دروسا في الإذلال، لم يسبقهم إليها إلا سجناء "أبوغريب" أيام صدام وأيام رامسفيلد.
الصور فضحها مدني يدير محلا لتكبير وتحميض الصور، كان قد استلم فيلما من أحد العسكريين الذي طلب تحميضه. وعندما شاهد هذا المدني مضمون الفيلم أبلغ الشرطة الألمانية في اوسنابروك حيث تجرى حاليا محاكمة الجنود الثلاثة الفاعلين للاعتداءات. المتهمون الثلاثة ورغم قرينة الصور التي تثبت تورطهم نفوا أن يكونوا قد اعتدوا بالضرب واجبار السجناء على ممارسة أعمال جنسية تخدش الحياء، وكان أحدهم الكوربورال كينون قد وصف في المحكمة بأنه "بطل حرب"، أنقذ حياة العشرات.
الصور الـ22 التي نشرت قبل أيام في الصحف البريطانية ومنها الى العالم، مقززة، ولا يجوز التغاضي عن حقوق من مورس عليهم الإذلال والخسة. ومهما شعر -أو قال رئيس الوزراءالبريطاني إنه شعر- بالهلع معتبرا أن الصور "صادمة ورهيبة"، فالعدالة لا بد أن تأخذ مجراها، إذ لا يجوز أن يكون عقاب من يسرق من "سلة الخبز"، -حتى لو كانت بريطانية- ارتكاب جريمة فحشاء به.
"الفرق بين الديمقراطية والطغيان... يكمن في أن الأشياء السيئة تقدم للعدالة، حين وقوعها في ظل الديمقراطية..." هكذا علق توني بلير على الفضيحة الجديدة. فلننتظر لنرى معنى العدالة والديمقراطية البريطانية ...في العراق!.