إنهم يقاربون الموضوع بحذر، ويخشون أن يبدوا قساة القلوب وخصوصا بعد أن تسببت الجيولوجيا التي يعجبون بها في وقوع خسائر فادحة في الأرواح البشرية. ومع ذلك يجد علماء الجيولوجيا أنفسهم في النهاية مضطرين للتصريح بأن العملية الأرضية التي تقف خلف وقوع الزلازل الكبرى، مفيدة للغاية للحياة على الأرض وبالذات الحياة الإنسانية... وذلك في المدى البعيد. إن الهزات الأرضية القوية التي تسببت في اندفاع الأمواج القاتلة عبر المحيط الهندي في السادس والعشرين من ديسمبر الماضي، تمثل آثارا جانبية حتمية لعملية التدوير المستمرة للقشرة الأرضية، وهي العملية التي أدت إلى نشأة عالم غزير النبات وصالح للسكنى والحياة على كوكب الأرض. ويشير بعض الخبراء إلى الضربات الاهتزازية المنتظمة التي تحدث في الأرض، والتي يبلغ عددها مئة ضربة في اليوم ،ويقولون بأنها تمثل في الحقيقة نبض الكوكب. وهذه العملية بدأت منذ مليارات السنين، وذلك عندما أدت عملية تدوير القشرة الأرضية، إلى تكوين المحيطات والمجال الجوي وقارات العالم ذاتها. أما الآن فإن هذه العملية تؤدي إلى بناء الجبال، وتخصيب التربة، وتنظيم حرارة الكوكب، وتركيز الذهب وغيره من المعادن النادرة، والمحافظة على التوازن الكيماوي للبحار. ولكن الجانب السلبي من تلك العملية، هو أن موجات الزلازل والثورات البركانية، يمكن أن تؤدي إلى إلحاق أضرار فادحة بالحياة البشرية.
ويقول العلماء إن هذه الظاهرة لا تحدث في أي كوكب من الكواكب المعروفة، وإن حدوثها على كوكب الأرض بالذات هو الذي جعله كوكبا مأهولا. بل ويذهب بعض الأيديولوجيين إلى أن تلك العملية هي التي أدت إلى نشأة الحياة ذاتها. والمزايا الرئيسية للتغيرات في القشرة الأرضية تتراكم بشكل تدريجي عبر العصور. وفي مقابل ذلك، نجد أن حدوث ثورات أو نشاط زائد عن الحد في تلك الظاهرة في منطقة من المناطق، يمكن أن يؤدي إلى حدوث كوارث طبيعية، وذلك كما حدث في الزلزال الأخير الذي ضرب المحيط الهندي.
وعلى الرغم من الآثار المدمرة لذلك الزلزال، فإن العلماء يقولون إنه قد يتبين لنا في المستقبل، أن أمواج "تسونامي" العملاقة، التي أغرقت الشواطئ يوم 26 ديسمبر هي في الحقيقة نعمة في شكل نقمة، وخصوصا بالنسبة للمناطق الساحلية التي تعرضت أكثر من غيرها لتأثيرات تلك الأمواج العملاقة.
والدكتور "جيل زيلينجا دي بوير" أستاذ الجيولوجيا في جامعة "ويزليان" والذي نشأ وترعرع في إندونيسيا، ودرس كل ما يتعلق بأرخبيلها، يقول إن الأدلة التاريخية تثبت أنه في المرات السابقة التي حدثت فيها ظاهرة تسونامي، قامت الأمواج الهائلة بتوزيع رواسب خصبة من منظومة الأنهار الموجودة على السهول الساحلية، مما أدى إلى جعل التربة أكثر خصوبة من ذي قبل في المناطق التي تعرضت للظاهرة.
والدكتور "دي بوير" الذي ألف كتابا حديثا عن تاريخ الزلازل والبراكين في الكرة الأرضية، يضيف إلى ذلك قوله إن المعاناة التي تنتج عن الثورات التي تحدث في القشرة الأرضية، كان يتبعها دائما فوائد عميمة. فالطبيعة تولد مجددا بسبب هذه الأحداث الرهيبة، كما أن هناك الكثير من الجوانب الإيجابية في المسألة حتى وأن لم نكن قادرين على رؤيتها رأي العين. فنحن نعرف من خلال دراسة "التكتونية" Tectonics( العملية التي تحدث بموجبها عملية التغيير والتشوه التي تتم في القشرة الأرضية والتي تنشأ عنها القارات والجبال) أن سطح الأرض يتكون مما يقارب من اثنتي عشرة طبقة قشرية، تطفو على بحر من الصخور الذائبة. وبمرور الزمن يقوم هذا البحر من الصخور الذائبة بتحريك طبقات الأرض، كما يقوم بتحريك القارات، وأحواض المحيطات الموجودة فوقها، فاصلا إياها عن بعضها بعضا، ثم معيدا تركيبها مرة أخرى، مثلما يتم إعادة تركيب الصور المكونة للغز.
وحدود تلك الصفائح التكتونية- أي النقاط التي تفصل بين صفيحة تكتونية وأخرى- معرضة على الدوام للإجهاد والشد الذي يؤدي بدوره إلى حدوث طيات وتصدعات. فالطيات تحدث من الإجهاد المستمر، فيما يحدث التصدع بفعل الإجهاد العنيف المفاجئ. وتقوم الصفائح التكتونية عبر الزمن بتكوين الجبال في نفس الوقت الذي تقوم فيه أجزاء من الصفائح الهابطة لأسفل بالذوبان ثم الارتفاع مرة أخرى لتكوين براكين على الأرض.
والطوفان الأخير بدأ بنفس الطريقة، حيث أدت الثورانات البركانية في أعماق الجزء الغربي من المحيط الهندي، إلى قذف صخور مذابة من الصفائح التكتونية في الهند. وأدى اصطدام تلك الصفائح مع مثيلاتها في بورما إلى حدوث البراكين في جزيرة سومطرة، بالإضافة إلى حدوث آلاف الزلازل، ومنها ذلك الزلزال القاتل ذو القوة الهائلة(9 درجات وفقا لمقياس ريختر). ولكن وعلى الرغم من تلك الخسائر المروعة في الحياة البشرية، فإنه" ليس هناك أدنى شك في أن نشاط الصفائح التكتونية يجدد شباب الكوكب". علاوة على ذلك يقول الكثير من العلماء المتخصصين في فيزياء الأرض، إن تلك العملية تبرز التركيب الفريد لكوكب الأرض. ففي العقود التي تلت اكتشاف الصفائح ا