يهيمن خطاب اليأس هيمنة شبه تامة على الحياة الثقافية العربية. ونحن نحتاج الى انتفاضة حقيقية وكبيرة للخلاص من هذا الخطاب. وغالبا ما ينطلق خطاب اليأس من قوة الدفع نحو التناول النقدي للمجتمعات والنظم والأداءات العربية. ومع ذلك لا مجال للتحرر من خطاب اليأس قبل أن نحرره من الاختلاط مع الخطاب النقدي. فثمة فارق كبير بين الخطابين أو المنظورين. فالأخير هو وحده الذي يملك سلطة معرفية بديلة، هي المنبع الكريم للقوة الاقتراحية.
النقد الذي يقود لليأس هو تواطؤ مع محمولات لغوية بدائية غايتها الدحض أو اظهار التهافت الكامن في فكرة أو منتج ثقافي أو واقع يترجم العشوائية والفوضى المعرفية وفوضى المصالح. أما المعنى الأرقى للنقد فهو مناقشة قضايانا ومشكلاتنا على مستويات أرقى وأعلى حيث تمكننا المعرفة من انتاج حلول ممكنة موضوعيا- أو حتى وسيطة تاريخيا – لمشكلاتنا المستفحلة. خطاب النهضة هو بالتحديد القدرة على انتاج أفكار خلاقة تحل المشكلات على المستويات الكلية والجزئية. ولأن هذا الخطاب تعرض لأزمة مستعصية بعد هزيمة 1967 فقد زمام المبادرة ربما حتى الآن، وهو ما أتاح لليائسين والمتطرفين من كل الاتجاهات أن يستلموا زمام المبادرة ليضاعفوا الشعور بالخراب في بلادنا العربية. وقد آن الأوان لوقف هذا الشعور وتجاوزه جذريا.
إن لدينا كل الحق في الشكوى من الواقع ورفض الأمر الواقع، فلدينا بلاد رائعة، بل ولدينا شعوب رائعة، لا تقل في شيء عن غيرها ممن حققوا طفرات جبارة، ولكننا في قاع الأداء العالمي في كل المجالات. ولكن الشكوى والنقد لن يضيفا شيئا إلا اذا التزم بتكوين قدرة اقتراحية وسلطة معرفية أرقى. ولن يحدث ذلك إلا اذا غادرنا منصة اليأس وأعدنا مشروعا أرقى للنهضة إلى صدارة حياتنا الفكرية والثقافية...والسياسية أيضا.
تبدأ السلطة الاقتراحية بالأمل باعتباره موردا ثقافيا وأخلاقيا لا ينضب ولا يجب أن نسمح له بالنضوب. نقول بأن الأمل مورد ثقافي لأنه المنبع الذي يغرف منه الناس ما يضيء وجدانهم وطريقهم عندما يحتاجونه أكثر من أي وقت آخر، أي عندما يكون هناك مبرر حقيقي لليأس والتسليم للضياع والبكاء على الأطلال، وعندما يهيمن الظلام. هنا والآن أكثر من أى وقت آخر نحتاج إلى أن ننعش الروح ونحفز الناس باشارات وبشارات. ولدينا الكثير من هذه البشارات وخاصة في المواهب الفذة التي تتفجر في آلاف من الشباب في ربوع الوطن العربي. وربما نشخص ببصرنا بشوق إلى الأجيال الشابة والجديدة لانقاذ بلادنا العربية مما هي فيه، وأقترح أن يكون هم الأجيال الكبيرة الحالية أن تسلم هذه الأجيال الشابة زمام المبادرة من خلال خلال بث المعرفة فيها، مزودة بالأمل والثقة.
لقد سلمنا أجدادنا مشروعا مثيرا وفيه خيال يتفجر بالخصوبة، وفي تقديري أن هذا المشروع: أي النهضة مفتوح وغير مغلق، فهو يقوم على النهل من تراثنا العربي الاسلامي في عصورالحيوية المعرفية والسياسية، وخاصة في القرنين الثالث والرابع الهجريين، ومما يناسبنا ويثور حياتنا السياسية والفكرية من انجازات كل الحضارات الانسانية الحديثة، بما فيها الحضارة الغربية. وهذه الصيغة مفتوحة لأن معرفتنا بحضارتنا العربية الاسلامية تتطور بصورة أفضل، كما أن المنبع الحقيقي للانجازات الكبيرة في التاريخ العالمي جاءت من خلال تحرير الابداع الفردي والجماعي، أي من منبع مفتوح. وكل ما نحتاجه هو بيئة ثقافية ونظرية أخلاقية وأطر سياسية تحفز وتحمي عملية تحويل كل مواطن عربي الى منبع للابداع والتجديد الخلاق على أي مستوى. فكل انسان هو منبع للابداع ولو على مستوى الحي أو القرية.
ولكي يسترد مشروع النهضة زمام المبادرة ونوفر أطرا سياسية وثقافية وأخلاقية لتفجير مكامن الابداع ومنابعه في كل مواطن عربي يجب أن نؤسس كتلة مقاتلة من أنصار النهضة في كل البلاد العربية. ونحن نمتلك بالفعل بعض مفردات وعناصر هذه الكتلة. فكل مواطن عربي بغض النظر عن جنسيته حركته تجربة دبي الاقتصادية، ويتوق لأن يرى بلاده تطبق منهجية البناء الاقتصادى في هذه الامارة، وكل مواطن عربي يعيش فى الدار البيضاء لابد أن تكون قد حركته التجربة الديمقراطية المثيرة التى تتدفق في المغرب، وكل مواطن عربي يعيش في البحرين لابد أن تكون قد حركته تجربة المناظرات الثقافية الخصبة هناك، وكل من يعيش في لبنان لابد أن يكون قد شعر بالغيرة حيال التجربة الصحفية والاعلامية المنفتحة في هذا البلد الجميل. وكل من عاش في مصر لابد أن يكون قد تأثر بأجواء التدين السلمي والتسامح الفريد الذي كان معروفا عن مصر حتى عقدين أو ثلاثة عقود فقط. وبوسعنا أن نمضي في حصر هذه التجارب والاضافات الرائعة في كل بلد عربي، بل ونستطيع أن نفيد من تجربة كل قرية أو كل عشيرة في حل مشكلة ونعمم تجربة هذا الحل ليحفز حلولا مشابهة أو مبدعة جديدة.
لدينا مشكلات كبيرة في تكوين كتلة مقاتلة للنهضة والاصلاح، ولدينا مشكلات أكبر في توفير أطر وأجواء سياسية ونفسية في اطلاق طاقات عناصر ومفردات هذه الكتلة. وهذ