شهد العام الماضي 2004، أهم حدثين دوليين، يتوقع لهما أن يشكلا التطورات الدولية اللاحقة. ويتمثل هذان الحدثان، في عجز الولايات المتحدة الأميركية عن بسط سيطرتها على التمرد الجاري في العراق، وتخلي أوروبا عن فكرتها الأصلية الراسخة عن أوروبا. بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، فقد برزت اعتبارا من العام 2004، باعتبارها قوة عظمى، أو دولة فائقة القوة كما وصفها الفرنسيون. وزعم أن لها من القوة ما يؤهلها للقيام بكل شيء تقريبا. غير أنها أمضت العام الماضي بأسره، دون أن تخرج من مأزقها العسكري الذي دخلته في العراق بعد أن كان من المفترض أن تتولى قوات الأمن العراقية الجديدة، التي أمضت واشنطن العام الماضي كله في تدريبها، مهمة حفظ الأمن وحماية الانتخابات العامة التي سوف تجري بنهاية الشهر الجاري، فضلا عن تأمين ظهر الحكومة الانتقالية التي سوف تعقب الانتخابات. بتولي القوات الأمنية الجديدة هذه المسؤوليات، كان يفترض أن تمهد الظروف، لعودة القوات الأميركية إلى بلادها وقواعدها التي انطلقت منها إلى العراق. إلا أن الواقع يقول بعكس ذلك تماما. ومع أن النتائج العملية لهذا الفشل الذي منيت به واشنطن في سياساتها الشرق أوسطية، وخيبة الحرب التي شنها الرئيس بوش على العراق، تعد كارثية وخطيرة، إلا أن نتائجها وتداعياتها غير المباشرة، تعد أكثر سوءا بما لا يقاس بالنتائج المباشرة.
فما أن تم اختبار الولايات المتحدة الأميركية عسكريا، وفي أرض المعركة التي اختارتها بمحض إرادتها، حتى تبين أن تطورات الأحداث والقتال هي التي تتحكم بها، وليس العكس. ذلك أن زمام المبادرة القتالية، ظل دائما بيد المتمردين، وليس بيد القوات الأميركية. وحتى في أفغانستان، حيث جرى انتخاب حكومة ترعاها الولايات المتحدة في العام الماضي 2004، كان النصر الذي تحقق هناك على حركة طالبان ونظامها، وليس نصرا على تنظيم القاعدة الذي هو أشد فتكا وخطورة. والمعروف الآن، أن هذا التنظيم، أصبح أكثر تأثيرا ونفوذا في الساحة الدولية، عما كان عليه من قبل. والنتيجة هي تمريغ القوة الأميركية في الوحل، علما بأن هذه القوة، تعد أعتى تجمع للقوة العسكرية على الإطلاق.
السؤال الذي لا يزال قائما هو: ما الذي سيشكل القوة الأميركية خلال العام الجاري 2005؟ ففي عام 2003، تمكنت القوات الأميركية البرية والجوية من السيطرة على العراق والعاصمة بغداد، دون مقاومة تذكر من جانب القوات البرية العراقية ضئيلة العدد، وغياب القوة الجوية التي تحمي العاصمة بغداد. وقد أسفرت عملية " الصدمة والرعب" التي نفذتها القوات الأميركية، عن تدمير البنية التحتية العراقية، وإحداث حالة الفوضى المدنية التي غرق فيها العراق، وبموجبها تحول النصر العسكري إلى هزيمة وفشل ماحقين. أسفرت تداعيات الفشل هذه بدورها، عن ابتعاد المواطنين العراقيين عن مؤازرة الأميركيين، مقابل توافد الإرهابيين والمقاتلين المتطرفين من مختلف أنحاء العالم إلى العراق، بغية اقتناص الأميركيين وقتلهم. كان في نية واشنطن تهدئة الأوضاع واستتبابها هناك، إلى جانب التحول السلمي الديمقراطي لذلك البلد. إلا أن ما حدث فعليا هو تورطها في أقذر حرب، لم تستطع منها فكاكا بعد. وفي العام الماضي 2004، اتضح جليا أن "القوة الناعمة" الأوروبية، كانت أمضى سلاحا وأقوى تأثيرا في تشكيل الأحداث الدولية، قياسا إلى "القوة الخشنة" الأميركية.
ولكن المؤسف أن واشنطن لا تزال تواصل بناء وتمتين ترسانتها وقوتها العسكرية، على رغم عجز تلك القوة عن حل كبرى المشكلات التي تواجهها الآن. فها هي تبني أسطولا جويا متكاملا من طراز طائرات (رابتورF-22) بغية تحقيق تفوق عسكري جوي ضارب، على أية قوة جوية عالمية أخرى. كما لا تزال تواصل تطوير أسطولها البحري، على رغم كونه أقوى أسطول على الإطلاق. والملاحظ أن هذا السباق في مضمار التسلح العسكري، لا تقابله رغبة من أي من دول العالم، في منازلة أميركا لا بحرا ولا برا ولا جوا!
خلال العام الماضي نفسه، استطاعت "القوة الناعمة" الأوروبية، أن تحدث تحولا كبيرا في منطقة البلقان، عن طريق ضمها لدول المنطقة، إلى عضوية الاتحاد الأوروبي. كما تأمل أوروبا أيضا في اتخاذ خطوة كبرى على طريق تحسين وإصلاح العلاقات الغربية-الإسلامية، وذلك بمنح عضوية اتحادها لتركيا. ونتيجة لتدخل هذه القوة الناعمة الأوروبية في تطورات الأحداث السياسية في أوكرانيا، استطاعت بالفعل أن تغير في وجه وخطوط خريطة الجغرافيا السياسية والثقافية لكل من أوكرانيا وروسيا على حد سواء. ذاك هو الوجه الإيجابي والمتفائل مما أنجزته أوروبا خلال العام الماضي. ولكن لا تزال الأزمة اليوغوسلافية لم تحل بعد، وكذلك الحالة الألبانية لا تزال تراوح مكانها هي الأخرى. وفي الإمكان كذلك إخفاق أو خيانة الوعد المقدم لتركيا، باحتمال انضمامها لعضوية الاتحاد الأوروبي. وبذلك تكون قد أغلقت النافذة التي تطمح أوروبا لفتحها على العالم الإسلامي، علاوة على التداعيات غير المحدودة لحدوث شيء كهذا