جاء انتخاب السيد محمود عباس- أبو مازن- قبل أيام ليضع القضية الفلسطينية والصراع العربي-الإسرائيلي على أعتاب مرحلة جديدة. فالسيد أبو مازن يعتبر مهندس اتفاق أسلو، ومعروف بوسطيته وعدم تمسكه بالخيار العسكري الذي تنادي به قوى فلسطينية وأخرى عربية وإسلامية لا تمتلك في واقع الأمر إلا المطالبة بهذا الخيار دون أن تستطيع ممارسته بشكل مؤثر وفعال نتيجة لاختلال كبير في موازين القوى لصالح إسرائيل.
ومعروف عن أبو مازن براجماتيته وواقعيته. المناوئون له يعتبرون هذه الواقعية هي الاستسلام والخضوع لمطالب إسرائيل بتقديم التنازلات على حساب حقوق الشعب الفلسطيني الأساسية. والمؤيدون له يرون في أبو مازن فرصة للخلاص من دوامة الدم والعنف والمعاناة التي يعيشها الشعب الفلسطيني. فالاستيطان مستمر، وابتلاع الأرض يسير على قد وساق، والحياة الفلسطينية اليومية لا تطاق، وهدم المنازل لم يتوقف، والتعليم في حالة مزرية والبطالة في ارتفاع، والفساد ضارب أطنابه ومنازله وقصوره وفلله أمام فقر مدقع وحالة من اليأس يعيشها الشباب الفلسطيني.
حدثني سياسي مخضرم عن قصة حدثت له وهو صبي صغير كان يلعب الكرة مع صبية أكبر منه سنا وأقوى عودا، فتشاجر مع أحدهم الذي يفوقه طولا وقوة. يقول السياسي هذا بأن الصبي ضربه حتى سقط، ثم نهض ليقاوم، فضربه ثانية حتى سقط. وللمرة الثالثة قام معاندا فضربه حتى سقط، ولم يقم بعدها، ووقف فوقه الصبي الكبير ونادى عليه أن يقف، فرفض. فقال له: لماذا لا تقف؟ فقال: لأنك ستضربني وتسقطني ثانية.
وكان هذا السياسي يوحي مختصرا بمنهج جديد واقعي يتبلور على الساحة السياسية الفلسطينية عبرت عنه غالبية جموع الناخبين الفلسطينيين في انتخابات الرئاسة الماضية بانتخابها أبو مازن. فالرجل لا يرى في "عسكرة الانتفاضة" نفعا للفلسطينيين. فالآلة العسكرية الإسرائيلية أقوى مما لدى عسكريي الانتفاضة من أسلحة خفيفة وصواريخ القسام. والقنابل البشرية والسيارات المفخخة تلاشت أمام الحائط العنصري الإسرائيلي الذي يلتف على عنق الضفة ويعزل مناطقها عن بعضها البعض.
إسرائيل ومن ورائها أميركا رحبتا بانتخاب أبو مازن. ولكن هذا الترحيب لا يعني شيكا على بياض لدعمه. فالمطلوب منه أن يوقف الهجمات المسلحة على إسرائيل، وقد لا ترضى إسرائيل بكل إلإجراءات ما دامت هناك طلقة واحدة توجه إليها. وأبو مازن يده مغلولة بسبب نقص الموارد، ودمار البنى التحتية للسلطة الفلسطينية التي عاث بها شارون فسادا وخرابا طيلة حملته لقمع الانتفاضة بعد عسكرتها، والقوى الدينية الفلسطينية- حماس والجهاد تحديدا- لن تقبل بنزع السلاح، وستجد السلطة الفلسطينية نفسها أمام خيارات صعبة.
لقد فوض الشعب الفلسطيني أبو مازن عن طريق صندوق الاقتراع، وهذا التفويض له استحقاقاته، والفلسطيني العادي ينتظر محاربة الفساد، وخلق فرص العمل، وإعادة تأهيل المؤسسات التعليمية وفرض الأمن ووقف المظاهر المسلحة "للزعران" الذين يرعبون الناس بحجة المقاومة. وهذا يعني أن تفرض السلطة هيبتها وبرنامجها الذي انتخبت على أساسه، وما لم تقم بذلك، فإن إسرائيل ستتذرع بعدم جدية أبو مازن بمحاربة "الإرهاب" وسوف تستمر في الاستيطان والاقتلاع للإنسان الفلسطيني. وإن حاول أبو مازن فرض هيبة القانون والسلطة فسوف يجد نفسه بمواجهة قوى لا تعترف بالانتخابات أصلا، وسوف تبدأ بإطلاق النعوت الخيانية والفتاوى الجهادية ضده وضد حكومته المنتخبة.