لا توجد علاقات دولية دائما. إذ تتغير التحالفات طبقا لتغير المصالح. فعداوات القرن التاسع عشر في الغرب بين فرنسا وإنجلترا، وعداوات القرن العشرين بين فرنسا وألمانيا، والحرب الباردة بين الغرب والشرق، والصراع التقليدي بين حلف شمال الأطلنطي وحلف وارسو، كل ذلك انتهى إلى نوع جديد من العلاقات الدولية، أشهره الاتحاد الأوروبي، والعالم ذو القطب الواحد. وهناك علاقات دولية أخرى مازالت ثابتة في نصف القرن الأخير بين الوطن العربي من ناحية والولايات المتحدة وإسرائيل من ناحية أخرى.
ويلعب الإعلام دورا رئيسيا في تحويل أنماط هذه العلاقات الدولية من أجل أن تتحول الاختيارات والتقلبات السياسية لنظم الحكم إلى رأي عام، وحتى لا تبدو مجرد قرارات فردية أو مملاة من الخارج. وهو جزء من عملية تزييف الوعي السياسي سواء فيما يتعلق بالسياسات الداخلية أو السياسات الخارجية. فالإعلام هو الذي يصنع التاريخ المعاصر. تتحكم النظم السياسية من خلاله أكثر مما تحكم بواسطة الجيش والشرطة وأجهزة الأمن.
ونموذج ذلك ما حدث أخيرا مع إسرائيل، بالإفراج عن الجاسوس عزام عزام بعد أن أدانه القضاء المصري بجريمة التجسس وثبوتها عليه برسائل الشفرة مع الموساد الإسرائيلي. ورفضت السلطات المصرية أي ضغوط عليها من إسرائيل أو الولايات المتحدة من أجل الإفراج عن الجاسوس الإسرائيلي بدعوى استقلال القضاء المصري، وعدم جواز تدخل السلطة التنفيذية في السلطة القضائية. واحترم العدو قبل الصديق الموقف النزيه للنظام السياسي حرصا على الاستقلال الوطني للبلاد. والناس في دهشة. هل هناك عمال إسرائيليون في مصانع الغزل والنسيج في المحلة الكبرى، قلب مصر الصناعي؟
ثم تم الإفراج عنه فجأة وبلا سابق إنذار. فالسياسة لا تعرف الثوابت. كل شيء يخضع للتجارة، المكسب والخسارة، بشرط أن يكونا فعليين وليسا وهميين. فهل كان الدافع لغزل إسرائيل ودفعها إلى قبول المفاوضات مع الفلسطينيين بعد أن كانت إسرائيل هي التي تسعى للتفاوض مع العرب؟ فشارون رجل سلام، ينسحب من قطاع غزة طوعا أو تحت ضربات المقاومة. لعله يقبل أن يطبق خريطة الطريق، وأن يكون الانسحاب من غزة مقدمة لانسحابات أخرى من الضفة الغربية، وبداية مفاوضات الحل النهائي فيما يتعلق بانسحاب إسرائيل إلى حدود 4 يونيو 1967 بما في ذلك القدس الشرقية وحق العودة، والسيطرة على المياه. وهو ما ترفضه إسرائيل بلاءاتها الثلاث: لا للانسحاب، ولا للقدس العربية، ولا لحق العودة. وعين شارون "لا تكسر" بالإفراج عن جاسوس في مقابل الاستيطان في "يهودا والسامرة". وهي طريقة إدارة الشؤون السياسية الخارجية عن طريق "كسر العين"، وإكرام اللئيم ونسيان ثقافة شعبية أخرى تحذر من إكرام اللئيم.
قد يكون الدافع هو صفقة من أجل الإفراج عن الطلبة المصريين الستة في سجون إسرائيل بتهمة المقاومة والإعداد لعمليات استشهادية في بئر سبع. وشتان ما بين الموقفين. جاسوسية تضر بمصالح البلاد، واستشهاد يدافع عن كرامة الأوطان. والجاسوس الإسرائيلي يقبّل علم إسرائيل بعد الإفراج عنه. ويعلن بلهجة مصرية أنه كان ميتا فأحياه رئيس الوزراء الإسرائيلي. فاليهودي المصري في إسرائيل يهودي، في حين أنه كان في مصر مصريا. سجن الوطني شرف، وإطلاق سراح الجاسوس خسة. فكيف يتساويان؟
وقد يكون الدافع هو غزل أميركا عن طريق غزل إسرائيل، محميتها وربيبتها. لعلها تضغط على إسرائيل لقبول التفاوض، وتطبيق خريطة الطريق. ولماذا لا يتسابق العرب في إرضاء سيد العالم والقطب الأوحد فيه؟ فقبول العولمة، وإسقاط إرادة الدولة الوطنية المستقلة، وإدخالها في قوانين السوق أو الاستسلام لمطالب إسرائيل هما أقصر الطرق للتقرب إلى أميركا وأكثرها نفعا. وهو تصور شعبي للسياسة الدولية يقوم على التشخيص والتأثير في الرؤساء حتى تتغير السياسات الموضوعية التي تقوم على ميزان القوى.
ولمزيد من إرضاء إسرائيل وأميركا وفي نفس الوقت الذي يتم فيه الإفراج عن الجاسوس الإسرائيلي بالرغم من إدانة القضاء له بجريمة التجسس والتخابر يتم توجيه الاتهام إلى موظف سابق في السفارة الإيرانية وكان ذلك منذ عام مع مواطن مصري بتهمة التجسس لصالح إيران. وإذا كان ذلك صحيحا فلماذا الآن وفي نفس توقيت الإفراج عن الجاسوس الإسرائيلي؟ قد يكون ذلك لمزيد من طلب القرب من الولايات المتحدة الأميركية. فأميركا تهدد إيران كل يوم. وتتهمها بإجراء التجارب النووية واستمرار المفاعلات الإيرانية بتخصيب اليورانيوم. وها هو دليل آخر على أن إيران مازالت لم تدخل بيت الطاعة بعد، وأنها "الولد الشقي" في المنطقة، وأن النظام الثوري الإسلامي يثير القلاقل في مصر، ويسبب الانزعاج لإسرائيل بتأييده سوريا وحزب الله، ولأميركا برفض سياساتها في فلسطين والعراق وأفغانستان.
ومن ثم تعطي أميركا دليلا جديدا يبرر لها العدوان على إيران كما اعتدت على العراق بنفس التهمة، امتلاك أسلحة الدمار الشامل، وعلى أفغانستان بنفس الاتهام، إيواء جماعات الإرهاب.
والعجيب هو الاعتراف بأ