الإجابة بكلمة واحدة عن السؤال الذي يطرحه عنوان كتابنا اليوم وهو: من الذي يدير هذا المكان؟ في "تشريح بريطانيا في القرن الحادي والعشرين" الإجابة هي: أميركا.
ولكن هذا في حد ذاته لا يبين السبب ولا الكيفية التي أصبحت بها بريطانيا مكانا قاتما وكئيبا لمن يفكر في العيش فيه. فلكي نعرف ذلك، فإننا في حاجة إلى فحص ومراجعة شاملة للمؤسسات المرئية وغير المرئية التي تمارس(أو تنازلت عن حقها في ممارسة) سلطتها على الشعب البريطاني. ومؤلف الكتاب "أنتوني سامبسون" هو الشخص المؤهل بصورة فريدة للقيام بهذه المهمة. السبب الذي يجعلنا نقول ذلك هو أنه كان من أوائل من تصدى للإجابة على السؤال الذي يطرحه عنوان الكتاب، وهو: من يحكم هذا المكان أو هذه البلاد التي هي بريطانيا؟.
كان ذلك في العام 1962، وكانت النتيجة كتابا تحليليا تشريحيا للحالة البريطانية تحول مع الأيام ليصبح من الأعمال الكلاسيكية الخالدة في فن التحليل السياسي. ومما لا شك فيه بناء على ذلك أن الكتاب الذي نتصدى بالعرض له اليوم سوف لن يقل عظمة وكلاسيكية عن سابقه. ويعود جزء كبير من التأثير المنتظر لهذا الكتاب أن يحققه إلى فترة الأربعة عقود التي مرت منذ أن قام بتقديم كتابه التحليلي الأول. وفي هذا الكتاب يقوم المؤلف بإعادة زيارة بعض مراكز السلطة التي سبق له أن زارها في الستينيات، كي يعرف ما الذي طرأ عليها، وهل اختلف الأمر بها عما كان عليه في السابق. بيد أن هذا الكلام قد يجعل القارئ يتخيل أن المؤلف كان نائما طوال الفترة التي انقضت بين كتابه الأول وكتابه الأخير، ولم يلاحظ بالتالي التحولات التي طرأت على توازنات السلطة في بريطانيا خلال هذه الفترة. ولكن قيام القارئ بذلك أي بتخيل أن المؤلف كان نائما طيلة تلك السنوات، لا يسيء لموضوع الكتاب بل قد يكون في صالحه في الحقيقة.
ولكن ما الذي يجعلنا نقول ذلك؟. الذي يجعلنا نقول ذلك هو أن هذا الكتاب هو الكتاب السادس من سلسلة الكتب التي قام "تومسون" بتحليلها والتي تحتل كلمتي "بريطانيا" و" تشريح" موقعا ثابتا فيها. والقفزة التي يطلب منا الكتاب أن نقوم بها، هي المقارنة بين بريطانيا 1962 وبريطانيا اليوم، هي قفزة مفيدة في الحقيقة، وتقدم لنا كما هائلا من المعلومات والمعرفة. فالقارئ من خلال قيامه بهذه المقارنة الذهنية لا يفتأ يسأل نفسه: ما الذي تحسن في بريطانيا خلال هذه الفترة وما الذي ساء؟ هل حدث تحسن في نوعية الهواء في ضواحي المدن؟... هل أصبح نهر "التيمز" الذي يشق العاصمة أكثر نظافة عما كان عليه في الماضي؟ هل زادت درجة التسامح تجاه الأجناس والأديان الأخرى وتجاه المرأة؟. سوف يكتشف القارئ من خلال تلك المقارنة المستمرة التي يجريها ذهنه أن هناك أشياء كثيرة قد تحسنت، وأن تلك التحسينات كانت كبيرة، وخصوصا ما يتعلق منها بالمساواة بين الجنسين في كافة المجالات، وفتح أبواب الوظائف الحكومية في المؤسسة البريطانية للجميع دون تمييز، وليس فقط للمحظوظين من أصحاب العلاقات العائلية التي تتيح لهم تبوء مناصب لا يستطيع غيرهم الحصول عليها. بيد أن هذا التطور لم يكن كافيا في حد ذاته، لأن البلاد كانت في حاجة إلى المزيد.
فعلى الرغم من أن مؤسسة الحكم البريطانية أصبحت اليوم تتسامح تجاه الانتقادات بقدر أكبر مما كان يحدث في الماضي، إلا أنها من ناحية أخرى قد تحولت إلى مؤسسة ثرية للغاية مقارنة بالماضي. وأنها لا زالت مهيمنة وذات سيطرة وسلطة طاغية، وأنها قد غدت أكثر مركزية حيث تتركز بشكل رئيسي في أيدي " توني بلير" وحاشية صغيرة للغاية محيطة به. وإذا ما كانت نبرة " سامبسون" في هذا الكتاب تبدو أكثر غضبا عما كانت عليه نبرته في كتاب 1962، فإن ذلك يرجع في الحقيقة إلى أن عدد الأشياء المسببة للغضب في بريطانيا اليوم أكثر بكثير مما كان عليه الأمر في حقبة الستينيات. فنظرا لتضاؤل الاهتمام والمبالاة من قبل المؤسسة تجاه رغبات الشعب- وهو تطور غير مستحب- فإنه من السهل أن نعثر على المزيد من الأشياء التي تدعو المؤلف وتدعو غيره من الأفراد للشعور بالغضب. ومن المهم بالطبع أن يكون لدى بريطانيا مؤلف مثل سامبسون يقوم بكشف النقاب عن الانحرافات التي لا زالت مستشرية في المؤسسة، وخصوصا بالنسبة لنظرتها لقانون حرية المعلومات التي تفهمه على أنه يعني الحد من المعلومات، بدلا من نشرها. في الفصول الأخرى يتناول المؤلف الأربع وعشرين مؤسسة بريطانية التي تتحكم في كل شيء يتعلق بالشعب البريطاني بدءا من المؤسسات القضائية إلى وسائل الإعلام إلى بنك بريطانيا.
في خاتمة هذا العرض، لا يسعنا سوى الاعتراف بأن هذا الكتاب- شأنه في ذلك شأن العديد من الكتب التي يتم وصفها بأنها تمثل" كتبا يجب قراءتها "- يعد من الكتب الصعبة إلى حد ما، وأنه يحتاج بالتالي إلى جهد خاص في القراءة. فهناك على سبيل المثال فصول تحتاج إلى جهد حتى يمكن استيعابها بسبب طابعها المتخصص وحاجتها إلى نوعية معينة من القراء مثل الباب الخاص بـ" مخصصات التقاعد" وهو عنوان غير جذا