وظيفة الاستخبارات الأساسية هي تقديم تقييم على أعلى درجة ممكنة من الدقة لموقف مفترض، بحيث يصلح هذا التقييم ليكون دليلا يسترشد به صانعو السياسات.
بيد أن إدارة جورج بوش لا تنظر إلى الاستخبارات من هذا المنظور، وإنما تنظر إليها على أنها جهاز يمكن ذكر اسمه في الحالات التي تريد فيها أن تبرر سياسة أو مبادرة ما، تكون قد اتخذت قرارها بالفعل بشأنها مثلما حدث بالنسبة للحرب التي قامت بشنها على العراق في ربيع عام 2003. فعندما كان يتبين للإدارة في معرض تبريرها لسياساتها أو مبادراتها أن الأمر يستلزم منها أن تقوم بتحريف الحقائق أو تشويهها فإنها لم تكن لتحجم عن ذلك على الإطلاق لأنها إدارة لا تشعر بأي التزام تجاه الحقيقة.
ومما يستوجب ذكره في هذا السياق أن " سليج إس. هاريسون" رئيس قوة الواجب المكلفة بمهمة الإشراف على سياسات أميركا تجاه كوريا بمركز السياسات الدولية، قد أشار في عدد يناير الحالي من مجلة "فورين أفيرز" أن الإدارة الأميركية قد قامت بشكل عمدي بتشويه الاستخبارات والمعلومات المتعلقة بكوريا الشمالية أيضا.
ففي أكتوبر من عام 2002، قامت الإدارة الأميركية فجأة باتهام " بيونج يانج" بأنها كانت تقوم سرا بتطوير برنامج لتخصيب اليورانيوم من أجل تصنيع سلاح نووي بشكل يمثل انتهاكا للاتفاقية المعقودة مع الولايات المتحدة عام 1994. وبعد أن وجهت الإدارة الأميركية هذا الاتهام لكوريا الشمالية، قامت بتعليق شحنات النفط التي كانت تقوم بتصديرها إلى تلك الدولة بموجب الاتفاقية المشار إليها، وهو ما أعاد الأوضاع مع كوريا إلى نقطة الأزمة مجددا.
ولكن وكما يقول "هاريسون"، فإن المراجعة التي أجريت على تلك المعلومات والاستخبارات فيما بعد أظهرت أن الإدارة الأميركية قد بالغت فيها، وقامت بالخلط عمدا بين تخصيب اليورانيوم بغرض إنتاج سلاح نووي، وبين تخصيب اليورانيوم من المستويات الأقل. فتخصيب اليورانيوم لغرض إنتاج سلاح نووي يخالف بنود معاهدة 1994، في حين أن تخصيب اليورانيوم الأقل درجة فإنه ليس ممنوعا بموجب اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية، على أساس أنه لا يؤدي إلى تخصيب اليورانيوم بكميات تكفي لإنتاج أسلحة نووية.
لقد كان ما قامت به كوريا الشمالية شيئا يجب على الولايات المتحدة أن تستجوبها بشأنه، ولكنه لم يكن شيئا يستحق منا أن نعيد العلاقات مع تلك الدولة إلى نقطة الأزمة. بيد أن هذا هو الذي حدث بالفعل من قبل إدارة بوش، وهو شيء كان يمكن أن يؤدي إلى عواقب أخطر مما يمكن أن يتصور أي أحد. لقد بدا الأمر وكأن الإدارة الأميركية تفضل الدخول في مواجهة عسكرية مع كوريا الشمالية، على أن تواصل المفاوضات والتفتيش على المنشآت النووية لتلك الدولة.
وهذا النمط من التصرفات هو الذي يحدث الآن مع كوبا. فالإدارة الأميركية تتهم كوبا الآن بأنها ترعى الإرهاب، وأن ذلك يمثل تهديدا للأمن القومي الأميركي. بيد أن الحقيقة هي على العكس من ذلك، حيث نجد أن كوبا تقوم بإدانة الإرهاب بكافة مظاهره وتجلياته، كما أنها قامت بالتوقيع على القرارات الأثنى عشر المناوئة للإرهاب التي أصدرتها الأمم المتحدة، كما عرضت من جانبها أن تقوم بالتوقيع على اتفاقيات خاصة مع الولايات المتحدة للتعاون في مجال مكافحة الإرهاب، وهو العرض الذي تجاهلته الإدارة الأميركية.
علاوة على ذلك فإن كوبا لا تقوم بإيواء ثوار منظمة "الباسك" ولا الإرهابيين الكولومبيين بدليل أن الدولتين المعنيتين بذلك وهما إسبانيا وكولومبيا تؤكدان أنه لا يوجد لديهما أي دليل على أن كوبا متورطة في أي أنشطة إرهابية ضدهما.
صحيح أن هناك بعض المجرمين الأميركيين الذين فروا من وجه العدالة وهربوا إلى كوبا، إلا أن ذلك في حد ذاته- ووفقا للقوانين الأميركية المعمول بها حاليا- لا يشكل تهديدا للأمن القومي الأميركي، كما أنه بمفرده لا يمكن أن يتخذ دليلا على أن كوبا متورطة في أنشطة تشكل تهديدا لذلك الأمن.
بيد أن أكثر الاتهامات الأميركية الموجهة إلى كوبا من حيث فجاجتها، هي تلك التي جاءت على لسان وكيل وزارة الخارجية الأميركية " جون آر. بولتون"،الذي وجه اتهاما لكوبا منذ فترة بأنها" دولة معروف أنها تقوم بتطوير برنامج بيولوجي محدود.. وأنها لا تزال دولة إرهابية تشكل تهديدا بيولوجيا للولايات المتحدة".
على الرغم من تلك الطائفة المتوالية من الاتهامات، فإن الإدارة الأميركية لم تقدم دليلا واحدا قويا، يثبت أن كوبا تقوم برعاية الإرهاب، أو أنها قد قامت بتدشين برنامج لتطوير أسلحة بيولوجية.
وكما فعلت بالنسبة للعراق، فإن الإدارة الأميركية تقوم في الوقت الحاضر بالتحرك إلى موقف المواجهة مع كوبا، حيث قامت بقطع جميع المحادثات التي كانت قائمة معها، كما قللت من حجم السياحة إلى كوبا بشكل جذري، وشددت العقوبات والمقاطعات المفروضة عليها، بل ودعت إلى الإطاحة بنظام فيدل كاسترو.
ووفقا لعقيدة الحرب الاستباقية التي تتبناها الإدارة الأميركية، تحتفظ الولايات المتحدة بحقها في توجيه ضربة